إعلان مبادرة القيادات الدينية والعلماء والمفكرين
للعمل على حماية المصلِّين ودور العبادة
أطلق علماء ومفكرون وشخصيات دينية، عربية ودولية، مبادرة عالمية للعمل على حماية المصلين ودور العبادة. وأكد الموقعون على المبادرة، التي دعا إليها سمو الأمير الحسن بن طلال، رئيس منتدى الفكر العربي ورئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية، رفض كل أشكال التطرف والكراهية والدعوة إلى حوار يُعزِّز الوعي الفكري والإنساني؛ يتلاقى فيه الجميع على نتائج تُحيي وتُقوي التعاون الإنساني، في سبيل وعي عالمي يمكنه التصدّي بالوسائل المشروعة لحماية دور العبادة والأماكن المقدسة والمصلِّين الأبرياء.
وتاليا نص البيان:
أمام ما نراه من استمرار الاعتداءات المتكرِّرة على أماكن العبادة وعلى أرواح المصلِّين الآمنين في عدة أماكن من هذا العالم، وانطلاقاً من المسؤولية الإنسانية والأخلاقية المشتركة، فإننا ندعو نحن مجموعة القيادات الدينية والعلماء والمفكرين إلى التشبيك مع الجهود التي تبذلها المؤسسات والأفراد لحثّ الناس جميعاً على رفض كل أشكال التطرف والكراهية والممارسات الأليمة بحق الروح الإيمانية والكرامة الإنسانية.
نحن ندرك أن خطاب الكراهية والاستقطاب الذي يثير الأحقاد ويبرِّر سفك الدماء لا يزال يتصاعد، ويصاحبه لجوء البعض إلى إساءة استخدام الأديان والعقائد كذريعة للعنف والإقصاء والتمييز.[1]
إنّ هذه الاستهدافات المقيتة تشمل أيضاً المواقع التاريخية والأثرية والتراث المعماري، بما في ذلك المتاحف والمكتبات والمخطوطات، مما يعدّ محواً للذاكرة التي تصون حضارات الشعوب وجوهرها القيمي من الإندثار، واقتلاعاً مُسْتَنكَراً لماضيها المحسوس وتجاربها الإبداعية. ويتجاوز ذلك إلى إبادة البشر وتدمير الحجر والعمران؛ ما يعني أن الخوف يقبع في كل عملية من عمليات الاعتداء ومحو الذاكرة على هذه الشاكلة، بل الخوف من تمثّلات الذاكرة في الضمير والمشاعر والأفكار والمواقف، وتجسُّد مظاهرها في الكتب والممتلكات الثقافية والفكرية والمؤثرات النابعة من الأخلاق.
لا شك أنَّ الاعتداء على دور العبادة وقدسيتها في الوقت الذي يؤدي المصلُّون الصلاة والشعائر الدينية في رحابها، هو ذروة هذه الأعمال الوحشية. وهذا يدعونا إلى التساؤل المشروع: ألم يحن الوقت للنظر في مسألة حرية العبادة كجزء لا يتجزأ من الحق في الحياة والنظر في قيمة التراث الإنساني فيما يخص الثقافة والهوية؟
وفقًا للأمم المتحدة، فقد "كانت الانتهاكات الجسيمة للحقوق الثقافية من بين الأسباب الجذرية للنزاعات؛ ويمكن أن يؤدي الفشل في معالجة التمييز المُمنهج وأوجه التفاوت وعدم المساواة في التمتع بهذه الحقوق إلى تقويض التعافي من النزاعات".[2]
يُضاف إلى ذلك، أن "النداء العالمي للعمل من أجل العبادة الآمنة لتعزيز التضامن وحماية المواقع الدينية والمصلين" يحتفي بإضفاء الأهمية العالمية على المواقع الدينية بوصفها رموزاً لإنسانيتنا وتاريخنا والتقاليد المشتركة للشعوب جميعاً في أرجاء العالم.[3]
ليس جديداً أنه في تاريخ الحروب والصراعات استُهدِفَت مواقع التراث الثقافي ومكتبات دول "المشرق" والمواقع والمراكز الأخرى المُمثِّلة للحضارة العربية والإسلامية، فقد شَهِد هذا التاريخ تدمير مكتبة دار الحكمة في بغداد عام 656هـ/ 1258م، وكانت أكبر مكتبة على وجه الأرض في زمانها.
إننا نؤكِّد في هذا المجال دعوتنا إلى أن تكون السياسات وخاصة لفترة ما بعد الحرب والنزاعات المستشرية، سياسات إنسانية شاملة، تستند إلى المنطق والحسّ العالي بالمسؤولية بعيداً عن السياسات المرتجلة وما تؤدي إليه من انقسام وتفتت يجعلان الانتماءات الضيقة تسود المشهد على حساب التضامن والحقوق الإنسانية. فلا يمكننا الاستمرار في تجاهل أن الحقائق الوجودية تشملنا وتعنينا جميعاً.
وعلى الرغم من الخصائص الثقافية والوطنية المرتبطة بالتراث، فإن المعنى الأعمق للتراث يكمن في القدرة على اكتشاف مساهماته المختلفة في تكوين حضارة إنسانية مشتركة.
دعونا إذاً نحترم تاريخنا وتراثنا من خلال العمل على تعزيز الاحترام المتبادل مع الآخرين، وأن نتذكر أنه، ومن دون التاريخ، ليس بمقدورنا أن نصمد للمستقبل؛ فالتاريخ والتراث ما هما إلا ركيزة للحاضر الذي نسعى إلى بنائه؛ ليغدو الحاضر الذي يليق به الازدهار والرخاء والتميّز والإبداع الفكري الإنساني.
ينبغي علينا التأكيد بأن الإنسانية لن تستطيع مواجهة التحديات التي تجتاح كوكبنا دون التعاون والتضامن، وهذا يستدعي بدوره تعزيز مفهوم القيم الإنسانية المشتركة. مع الإشارة إلى أنه على النقيض مما قد يعتقده البعض، فإن مفهوم "القيم الإنسانية المشتركة"، بالمعنى المعمّق له لا "يُضعف الإحساس بالخصوصية المتأصلة في المعتقدات الدينية"، ولا "يتعارض مع الهويات الثقافية أو القومية". إنَّ الدول والشعوب، وبصرف النظر عن اختلافاتهم في المعتقدات والثقافات، فإنهم يتشاطرون إنسانية واحدة موحِّدة لا مُفرِّقة.
كما تُستحسن الإشارة هنا إلى أنَّ من أهم الجوامع التي نادى بها الإسلام هي مكارم الأخلاق، التي شكَّلت المهمة الأساسية التي جاء النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليتممها. وفي القرآن الكريم تأكيد على وحدة القيم الأخلاقية بين الناس، وتحريم الإساءة للنفس: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). (سورة المائدة :32).
ختاماً، لا بد من الدعوة إلى حوار يُعزِّز الوعي الفكري والأخوة الإنسانية؛ ويتلاقى فيه الجميع على نتائج تُحيي وتُقوي التعاون الإنساني، في سبيل وعي عالمي يمكنه التصدّي بالوسائل المشروعة لحماية دور العبادة والأماكن المقدسة والمصلِّين الأبرياء، والله الموفق وهو خير مُعين.
الموقعون:
[1] إعلان نتائج المؤتمر العالمي: "المضي قدما نحو قدر أكبر من التقارب الروحي في جميع أنحاء العالم لدعم المساواة في حقوق المواطنة" (جنيف، 2018)
[2] الأمم المتحدة. مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان. (2008). أسئلة وأجوبة حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (رقم 33). مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.