مبادئ مستمرّة بعد 50 سنة على رحيل جمال عبد الناصر
صبحي غندور*
Twitter: @AlhewarCenter
Email: Sobhi@alhewar.com
ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة "المشروع الناصري" الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته.
لقد توفّي جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر من عام 1970 عن عمرٍ لم يتجاوز ال52 عاماً، بعد 16 سنة من رئاسة مصر وقيادة المنطقة بأسرها، ولكنّه كان في سنوات حياته الأخيرة في قمّة بلوغه الفكري والسياسي، خاصّةً في الأعوام التي تلت حرب العام 1967. فالتجربة الناصرية كانت عمليًا مجموعة من المراحل المختلفة، ولم تكن تسير في سياقٍ تطوّري واحد.
التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن قضايا العدل السياسي والاجتماعي، وبناء مجتمع المواطنة السليمة، والتحرّر من الهيمنة الأجنبية، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والتمسّك بالهويّة العربية، هي أهدافٌ مستمرّة لشعب مصر ولكل شعوب الأمّة العربية مهما تغيّر الزمن والظروف والقيادات، وكيفما اختلفت الوسائل أو تعثّرت..
البعض يعتبر أنّ الحديث الان عن ناصر هو مجرّد حنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بينما نجد الآن من ينبش في الأمَّة العربية خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14 قرناً، والهدف منها ليس إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على ان تكون "الدولة اليهودية" نموذجاً لدويلات دينية وإثنية منشودة صهيونيًا في المنطقة كلّها!.
نعم يا جمال عبد الناصر، في الذكرى الخمسين لوفاتك نحن نعيش الآن نتائج "الزمن الإسرائيلي" الذي جرى اعتماده مصريًا اولًا من قبل أنور السادات بعد رحيلك المفاجئ عام 1970، وبالانقلاب الذي حدث على "زمن القومية العربية"، الذي كانت مصر تقوده في عقديْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب حالة صهيونية بعضها عُنفي وطائفي ومذهبي وإثني لتفتيت الأوطان.. وبعضها الآخر يبايع نتنياهو زعيماً وقائداّ وحاميًا ومخلّصًّا!.
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فقد كنت تكرّر دائماً: "غزَّة والضفَّة والقدس قبل سيناء.. والجولان قبل سيناء"، وأدركتَ أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في العمق الإفريقي.
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فأنت رفضت إعطاء أي أفضلية لعائلتك وأبنائك، لا في المدارس والجامعات ولا في الأعمال والحياة العامّة، فكيف بالسياسة والحكم!! وتوفّيت يا ناصر وزوجتك لا تملك المنزل الذي كانت تعيش فيه، فكنت نموذجاً قيادياً عظيماً، بينما ينخر الآن الفساد في معظم مؤسّسات الحكم بأوطاننا.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كان عليه العرب في أيامك يا ناصر.. فقد سقطت أولويّات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها "المعاهدات" والمعارك العربية الداخلية. اليوم استبْدِلَت "الهويّة العربية" بالهويّات الطائفية والإثنية ولصالح الحروب والانقسامات الوطنية الداخلية. اليوم تزداد الصراعات العربية والإسلامية البينية بينما ينشط "التطبيع مع إسرائيل"!!.
هكذا هو واقع حال العرب اليوم بعد غيابك يا عبد الناصر، نصف قرن من الانحدار المتواصل!. نعم المنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد متغيّراتٍ جذرية في عموم المجالات .. لكن ما لم يتغيّر هو طبيعة التحدّيات المستمرّة على العرب منذ مائة سنة، هي عمر التوأمة والتزامن بين وعد بلفور وبين تفتيت المنطقة وتقسيمها لصالح القوى الكبرى!.
نعم، نفتقدك يا ناصر في هذه الليالي العربية الطويلة، الشديدة في ظلمها وظلامها، لكن الخلاصات الفكرية والسياسية لتجربتك، خاصّةً في فترة نضوجها ما بين عامي 1967 و1970 هي التي نحن الآن بحاجةٍ إلى التأكيد عليها.
***
فاستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص "الميثاق الوطني" وتقريره في العام 1962، وإلى بيان 30 مارس في العام 1968، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية للتجربة الناصرية بما يلي:
***
أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الصهيوني، فقد وضع جمال عبد الناصر منهاجاً واضحًا لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب عام 1967، يقوم على:
***
هذه باختصار مجموعة خلاصات فكرية وسياسية أراها في التجربة الناصرية، خاصّةً في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967، وهي خلاصات لا يُسقط الزمن أهمّيتها بل نجد هناك حاجةً قصوى الآن لإعادة الاعتبار لها والعمل لتحقيقها في هذا الزمن العربي الرديء.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.
Twitter: @AlhewarCenter
Email: Sobhi@alhewar.com