لقد توفَّرت للمهاجرين العرب إلى الغرب، فرصة العيش المشترك في ما بينهم، بغضِّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتالي، توفَّر إمكان بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً، أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة، من الممكن الاستفادة منها عربياً في الإطارين الفردي والمجتمعي.
لذلك، فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة في عملية الإصلاح العربي المنشود، لكن للأسف، فإنّ معظم المهاجرين العرب، يعيشون الآن محنة ارتجاج وضعف في هويّتهم العربية، وفي هُويّة بلد الهجرة نفسه. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هويّة أوطانهم العربية الأصلية، ثمّ هويّة الوطن الجديد الذي هاجروا إليه.
وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خاصّة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، جملة تطوّرات، انعكست سلبياً على الهويتين معاً. وقد عانى الكثير من العرب في الغرب من هذا الشعور السلبي حيالهم وحيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام.
الأخطر من ذلك عند المهاجرين العرب، هو التشكّك الذاتي الحاصل لدى بعضهم في هويّته الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية، بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي، أو في أحسن الحالات إقليمي. وهذا مردّه طبعاً ما يحدث من تراجع وطغيان الانقسامات على معظم المنطقة العربية، وانعكاس هذا الأمر على كثير من العرب في داخل الأوطان العربية وخارجها.
إنّ الدور المنشود من المهاجرين العرب، يُحتّم عليهم أولاً تحسين وإصلاح ما هم عليه الآن من خلل في مسألة الهوية، ومن ضرورة عدم السلبية تجاه مؤسسات العمل العربي المشترك في الغرب.
ولا أعلم لِمَ لا يستفيد المهاجرون العرب من تجارب سابقة في الهجرة العربية للغرب، كان في مقدّمها في مطلع القرن العشرين، تجربة الأدباء العرب ذوي الأصول اللبنانية، الذين استوطنوا في معظمهم بمدينة نيويورك الأميركية، وشكّلوا فيما بينهم «الرابطة القلمية»، بمبادرة من الكاتب والمفكر جبران خليل جبران،.
حيث كانت هذه «الرابطة» نموذجاً لما نحتاجه اليوم في دول المهجر من منتديات وروابط وجمعيات تقوم على أساس المشترك من الهُوية الثقافية والاهتمامات والعمل، لا على الأصول الوطنية والطائفية والمناطقية. فعلى الرغم من أنّ كل هؤلاء الأدباء الذين جمعتهم «الرابطة القلمية»، كانوا من أصول لبنانية ودينية مسيحية، فإنّ «رابطتهم» كانت الأدب العربي، فلم يجتمعوا أو يعملوا في أطر فئوية.
ولم يُطلقوا على أنفسهم اسم «الرابطة اللبنانية» أو «الرابطة المسيحية». فكان «قلمهم» من أجل نهضة أوطانهم ووحدة شعوبهم، ومن أجل الإنسان عموماً، بغضَّ النظر عن العنصر والدين. كذلك فعل أدباء المهجر آنذاك في أميركا الجنوبية، حيث أسّسوا «الرابطة الأندلسية» التي برزت فيها أسماء رشيد سليم الخوري وفوزي المعلوف وآخرون.
وفي فترة زمنية متقاربة مع فترة تأسيس «الرابطة القلمية» في نيويورك، حدثت تجربة الإصلاحي الإسلامي، الشيخ محمد عبده، من خلال تأسيس مجلة «العروة الوثقى» في باريس. وكما حرص الشيخ محمد عبده على توظيف منبره (العروة الوثقى) لإصلاحيين ومفكرين آخرين، كان في مقدّمهم الشيخ جمال الدين الأفغاني.
كذلك كانت «الرابطة القلمية» التي أسّسها جبران، منبراً لعدد مهمّ من المفكرين والأدباء، كميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. فهذا النموذج من المهاجرين العرب، أدرك واجبه ومسؤوليته في إصلاح المجتمع الذي هاجر منه، وفي المساهمة الفكرية والعملية بتقديم المشروع النهضوي المطلوب، وفي جعل بلد المهجر مصنعاً لخميرة إيجابية جيّدة وجديدة، لا مرآةً تعكس سلبيات الأوطان التي هاجروا منها.
ولم يجد هؤلاء في «الآخر» منهم منافساً، بل مكمّلاً لعطائهم. تعلّموا الكثير من بلدان الغرب، لكن لم يفقدوا هُويّتهم ولا نسوا أوطانهم. حافظوا على لغتهم وثقافتهم في بلاد المهجر، لكن كانوا فاعلين إيجابيّين أيضاً في مجتمعاتهم الجديدة. كان همّهم الأول في «الشرق»، وإن كان وجودهم في «الغرب». استفادوا من حسنات المكان لكي يسهموا في تغيير سيّئات زمن أوطانهم.
ولعلّ المنطقة العربية، هي حالة فريدة جداً بين مناطق العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة.
ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية، امتدّت لكلّ الجهات الأربع، وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية، تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية.
وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإمبراطوري، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي القائم على علاقات «الشرق» و«الغرب»، أو على تباينات «الشمال» و«الجنوب».
ولا يمكن لهذه المنطقة ككل، أو لأجزاء منها، أن تختار السلامة والأمن والتقدّم عن طريق العزلة، فهناك حتمية التنافس الدولي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على مدى الاختلال الحاصل في الميزان العربي، وهو الآن يشهد اختلالاً كبيراً في المجالات كلّها.
إنّ غياب العمل الفكري والسياسي السليم لمواجهة ما هو واقعٌ مرفوض، ولبناء ما هو مستقبلٌ منشود، يعني دعوةً للآخرين إلى التحكّم بمصائر الواقع والمستقبل معاً.
فما أحوج الأمَّة العربية اليوم إلى «عمل نهضوي عربي شامل»، يشترك فيه مجموعة من أبنائها المقيمين في بلاد العرب، مع المنتشرين منهم في بقاع العالم، ليشكّلوا معاً روّاد النهضة وطلائع الإصلاح الواجب لأوطانهم وأمَّتهم.