يقوم النموذج التنموي الصيني المعاصر من الناحية الأيديولوجية على خمسة أعمدة هي؛ الانفتاح والبراجماتية والتوافقية والتعاون والسلام. ويقوم من الناحية التطبيقية على خمسة أعمدة مماثلة هي؛ الإنتاج والصادرات والاستهلاك والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. فالإنتاج هو أساس التنمية المستدامة والصادرات هي أداة التنمية، والاستهلاك يمثل قوة الدفع الذاتية للاقتصاد المرتبط برفع مستوى المعيشة بزيادة الدخل لمواجهة أي قصور في الصادرات، والمصالح المشتركة هي التي تغذي العلاقات الودية بين الدول والمنافع المتبادلة هي التي تضمن استمرارية التعاون.
في هذا السياق تأتي الزيارة الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسي لبناء مصالح مشتركة ومنافع متبادلة وعلاقات حضارية جديدة وفقاً لأربعة مبادئ رئيسة، أولها السعي للانفتاح على مختلف القوى الدولية وبالذات القوى ذات المصداقية وذات الاستراتيجية بعيدة المدى للعلاقات بين الدول تقوم على المصالح وليس العواطف أو السعي نحو السيطرة. الثاني مبدأ الصداقات الاستراتيجية الدائمة وعدم التمييز أي السعي لمزيد من التعاون العالمي بين جميع القوى ومع جميع الدول وليس مع قوة معينة على حساب أية قوى أخرى. الثالث العمل من أجل تنمية مستدامة لمصلحة الشعب بأسره وليس لمصلحة فئة أو طبقة، الرابع البراجماتية بمعنى رفض الأفكار والأيدلوجيات الجامدة في التنمية أو في العلاقات السياسية، وبعبارة أخرى التعاون والعمل مع الجميع دون إملاء شروط.
زيارة السيسي الثانية ارتبطت بمناسبة عالمية مهمة لمختلف دول العالم وهي الانتصار على قوى المحور التي تطلعت لتغيير العالم وفقاً لرؤيتها وسعيها نحو الاستعمار والتوسع وانتهاكها للمبادئ الدولية القائمة على أهم مبدأ وهو احترام السيادة وعدم المساس بأراضي الدول الأخري بالغزو أو الاعتداء، ومن هذا المنطلق أعلنت مصر الحرب على النازية ودول المحور في الحرب العالمية الثانية، وانضمت للدول التي تقاوم طموحات القوى الفاشية للغزو والتوسع، وشاركت مصر في مؤتمر سان فرانسيسكو كدولة من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ذلك المؤتمر الذي أعد الصياغة النهائية لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ العمل الدولي في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجاءت تلك المبادئ واضحة في نصوص المادة الثانية من الميثاق، كما شاركت مصر بممثل قدير هو الدكتور محمود عزام في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفقاً لرؤية عالمية تتسع لجميع الحضارات، واختير من مصر أول قاض في محكمة العدل الدولية التي أنشئت بعد الحرب وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الذي هو جزء لا يتجزأ من الميثاق، وكان القاضي المصري الأول هو الدكتور عبدالحميد بدوي، ولعله مما يذكر أن مصر شاركت بثلاثة قضاة في المحكمة حتى الآن هما الدكتور عبدالله العريان والدكتور نبيل العربي وأيضاً الدكتور فؤاد عبدالمنعم رياض الذي كان أول قاض مصري وعربي في المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة.
أما المناسبة الثانية فهي مشاركة مصر كدولة محبة للسلام في العرض العسكري السلمي في الصين بقوة من الجيش المصري، وهي مشاركة حملت بعداً رمزياً مثل مشاركتها في إعلان الحرب على النازية. وحملت هذه المشاركة رسالة سلام للعالم مضمونها أن مصر تتمسك بمبادئ الأمم المتحدة وهي العمل من أجل السلام، ولكن من منظور بناء القوة وليس من منظور الضعف، ومن منظور التعاون وليس من منظور الخضوع للأحلاف أو لأية قوة تملي على مصر إرادتها أو تتدخل في شؤونها الداخلية. إنها تقوم على المبدأ الذي أعلنه الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر «نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا» مع تطويره وفقاً للفكر الإسلامي الصحيح نسالم من يسالمنا ولا نعادي من يعادينا، وهو الفكر القائم علي مفهوم «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»، باختصار إن التعاون مع دولة ما ليس ضد أية دولة أخرى. مع التأكيد على التفرقة بين السعي للسلام من منظور القوة وبين الاستسلام من منظور الضعف.
العلاقات المصرية الصينية المعاصرة، أي منذ 30 مايو عام 1956، قامت على أساس التعاون والمصلحة المتبادلة التي برزت من المفاهيم الأساسية في مؤتمر باندونج في أبريل عام 1955، والذي جمع الدول النامية التي تحررت لتوها من الاستعمار وترغب في المحافظة على استقلالها وسيادتها ولا ترغب في الحرب الباردة ولا الساخنة، ولذلك طورت مصر بالتعاون مع الهند ويوغوسلافيا وغانا وغينيا وغيرها من الدول الأفريقية والآسيوية مبادئ حركة عدم الانحياز التي لعبت دوراً مهماً في تلك الفترة لتوسيع مساحة السلام ورفض الأحلاف العسكرية ورفض سباق التسلح المدمر وليس التسلح الضروري للحفاظ على الأمن الوطني للدولة.
زيارة الرئيس السيسي للصين بدأت مرحلة جديدة في التاريخ المصري المعاصر وهي مرحلة التعاون الجاد والشراكة الاستراتيجية والعمل في إطار التنمية المستدامة والصداقة المستدامة، ولهذا عقدت مجموعة من الاتفاقات الاقتصادية والتجارية والصناعية والتعاون في مجال تنمية وتطوير الموارد.
والعلاقات المصرية الصينية تدخل عامها الستين في مايو 2016 وينبغي أن يتم الاحتفال اللائق بهذه العلاقات التي شهدت وقوف مصر مع الصين حتى استردت حقها في الأمم المتحدة، كما شهدت وقوف الصين مع مصر ضد العدوان الثلاثي عام 1956 وضد عدوان 1967 وفي حرب أكتوبر 1973 وغيرها من المواقف التي لن ينساها الشعب المصري، لأنها تمثل علامات مهمة في تاريخه الحديث. المرحلة الجديدة في علاقات مصر والصين تحولت للتعاون من أجل البناء والتعمير والتقدم والازدهار بعد أن تجاوزت الدولتان المرحلة الثورية التي بدأها جمال عبدالناصر وشوان لاي وماوتسي تونج.
المرحلة الجديدة في مصر والتي بدأت بثورتي 25 يناير و30 يونيه عندما خرج أكثر من 30 مليون مصر متظاهرين ضد حكم ينتمي للماضي بدلاً من النظر للمستقبل، وضد حكم يفرق الشعب بدلاً من أن يوحد الصفوف، أنها ثورة تكاد تتطابق مع مرحلة الإصلاح والانفتاح في الصين التي بدأها الزعيم دنج سياو بنج وأدت لنهضة حولت الصين من دولة نامية إلى دولة متقدمة، وهو ما نتطلع أن تحققه ثورة 30 يونيه والنظام الذي أفرزته بالدور الوطني الرائع الذي قام به عبدالفتاح السيسي والجيش المصري البطل الذي هو موئل الوطنية المصرية وحامي تراب الوطن وحامي أمنه الخارجي والداخلي، ولمن لا يعرف قيمة هذا الجيش فعليه أن ينظر حوله في عالمنا العربي المضطرب وكيف تسير الأمور في بعض تلك الدول التي تتحول إلى فكر طائفي ومحاصصة سياسية وبراميل متفجرة ضد الشعب الذي يتحول إلى لاجئين بعد أن كان ملء السمع والبصر. وهذه هي أصالة جيش مصر عبر العصور في دفاعه عن شعبه في عهد أحمد عرابي وجمال عبدالناصر وأنور السادات وضد أي انحراف سياسي، كما كاد أن يحدث في مراحل لاحقة، وحرص الجيش المصري والشرطة المصرية ومعهما القضاء المصري الشامخ على أمن واستقرار الوطن.