تعدّ محافظة الأنبار ومركزها مدينة الرمادي أكبر محافظات العراق مساحة، حيث تبلغ 138,500 كم2، ويقطنها نحو مليوني نسمة، وهي تقع غرب العراق، وترتبط بحدود طويلة مع سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية، وتلاصق محافظة صلاح الدين ومركزها تكريت، وتتجاور مع محافظة كربلاء (منطقة النخيب). كما أنها قريبة من بغداد العاصمة، حيث يبعد مركز المحافظة (الرمادي) 100 كم عن بغداد، في حين تبعد الفلوجة عنها بنحو 50 كم.
في 15 أيار 2015، وقع مركز المحافظة (الرمادي) بالكامل بيد تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي قام بإعدام المئات من الأهالي، بعدما اضطرّت قوات الجيش العراقي إلى الانسحاب، مثلما تركت قوات الشرطة المحلية وقوة مكافحة الإرهاب مواقعهما. يضاف إلى ذلك أن طيران قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، لم يقدّم الدعم المطلوب بحيث يرجّح جهة القوات العراقية على جهة «داعش»، وظلّ أهالي الرمادي طيلة نحو عام يدافعون عن مركز المحافظة ضد «داعش» وهجماتها وانتحارييها، مثلما يستنجدون بتسليحهم والعشائر العربية، ليتمكّنوا من الاستمرار في المواجهة، لكن المعركة في نهاية المطاف حُسمت لغير صالحهم بسبب اختلال موازين القوى.
وقامت «داعش» بعد استيلائها على الرمادي بتدمير مباني الحكومة الأساسية، الأمر الذي اضطرّ معه السكان المدنيون، إلى الهجرة الجماعية هرباً من انتقامها. ويقدّر عدد الذين تركوا منازلهم بنحو 200 ألف شخص بحثاً عن الأمان بحسب تقدير «المفوضية العليا لحقوق الإنسان»، ويعاني النازحون من ظروف قاســـية بسبب الإجراءات الأمنية المشدّدة التي أدت إلى اكتظاظهم عند مشارف العاصمة بغداد، وذلك بســـبب مطالبتـــهم بإيجاد كفيل شخصي لهم، بزعم الخوف من تسلّل بعــض العــناصر الإرهابية من تنظيم «داعش» أو غيره.
لقد سبّب وقوع مركز محافظة الأنبار بيد «داعش» صدمة جديدة بخصوص قدرة الجيش العراقي وفاعليته، ناهيك عن تماسكه وعقيدته العسكرية، وهو أمر طالما شكّك فيه الأميركيون، الذين ظلّوا يؤكدون أنه بحاجة إلى تأهيل وتدريب طويلين. من جهة أخرى، فإن الصدمة شملت أوساطاً عراقية وعربية غير قليلة، بسبب لا مبالاة الولايات المتحدة، لدرجة أن هناك من اتّهم الإدارة الأميركية بترك الأنبار تقع بيد «داعش» وتركيزها على مصفاة بيجي، ومثل هذا الرأي لم يكن حكراً عن بعض العراقيين والعرب، بل هو ما قال به جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأميركي.
وأظهرت الاستراتيجية العسكرية الأميركية التي تقود التحالف الدولي، عدم جدواها بل عجزها حتى الآن من القضاء على «داعش»، حيث تنامى التنظيم واحتلّ المزيد من الأراضي، لم يكن يسيطر عليها عند احتلاله «المفاجئ» للموصل في حزيران 2014. وقبل السؤال عمّا يمكن فعله للقضاء على «داعش»، لا بدّ من صيغة أخرى للسؤال: ما السبيل للقضاء على التطرف والتعــــصب وأسبابهما الاجتــــماعية والاقتصادية والسياسية والديــــنية وسياســـات الاستتباع وعــــدم عدالة النــظام الدولي وغير ذلك؟
لعلّ «داعش» واحد من مظاهر التطرّف الأكثر تعقيداً وهمجية، وإذا كانت هزيمته عسكرياً ضرورة ملحّة، لكنه لا يمكن القضاء على هذا المرض المستعصي، من دون استئصال الفكر المتطرف، كي لا يفقس بيضه ويأخذ أسماء وأشكالاً مختلفة من «القاعدة» إلى «داعش» و «جبهة النصرة» وغيرها، خصوصاً في ظل شحّ الحريات وضعف الدولة الوطنية، وتغوّل السلطة عليها، وصراعات ما قبل الدولة، الطائفية والمذهبية والإثنية. لقد فشلت الولايات المتحدة طيلة ربع القرن الماضي من تقدير القوة الحقيقية لقوى التكفير الإسلاموية. وكانت ردود الأفعال ضد سياستها سبباً في انتشار الجماعات المتطرفة، ابتداءً من شمال أفريقيا في العام 1998 مروراً باحتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، ثم قصف قوات حلف «الناتو» لليبيا وبعدها التدخل في سوريا، لاسيّما عندما تم تعويم المشكلة السورية، وصولاً إلى نيجيريا، وأخيراً فشل سياسة واشنطن في منع حملات التجنيد لصالح «داعش»، سواءً في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وهو ما ذهب إليه بول بيرمان أحد منظّري السياسة الخارجية الأميركية.
وإذا كـان الهدف هو تدمير التنظــيم، فإن سياسة «الاحتواء» أو مقاومة إغراء التدخل العسكري لا تعـــني سوى تحجيم التنظيم أو تقليـص نفوذه وليس القضاء علــــيه. وبين هذا وذاك اختلاف كبير لناحية الغايات والوســــائل، وبين الحـــسابات القصيرة المدى وبين الاستراتيجية البعيدة الأمد.
إذا كان نحو عام قد مرّ على سقوط الموصل، ولم تتمكّن الولايات المتحدة التي تدعم القوات العراقية والبيشمركة الكردية من استعادتها، فهل ستتمكن من استعادة الأنبار بسرعة؟ الشكوك وعلامات الاستفهام لها ما يبررها، حيث تتربّع «داعش» وتحاول تثبيت أقدامها في خطوات استراتيجية جديدة لا تقوم على الهجوم فحسب، بل تسعى بعد هجومها لاحتلال المدن والبقاء فيها والعمل على إدارتها، ضمن خطط شاملة تربوية ودينية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وأمنية وقانونية وثقافية، وذلك في إطار تنظير سياسي جديد مفاده إقامة «دولة الخلافة الإسلامية»، الأمر الذي يستلزم لمجابهة الإرهاب والتصدّي لـ «داعش»، أساليب جديدة.
المعركة لاستعادة الأنبار قد تطول وقد تبدأ متقطعة لعدد من الأسباب، أولها أن الجيش العراقي لا يزال ضعيفاً ومُنهَكاً، بل مثقلاً بما حصل في الموصل ومؤخراً في الأنبار، وهو يفتقد إلى عقيدة عسكرية موحّدة، فيما تأسيسه كان أقرب إلى اتحاد ميليشيات، حيث لا يتمتّع بالمهنية المطلوبة والحرفية المفترضة والولاء الوطني، بل إن ولاء بعض منتسبيه وقادته لأمراء الطوائف أو لزعماء بعض الجماعة السياسية، المذهبية والإثنية.
وثانيها أن الخلافات السياسية لا تزال تعصف بين «الأعدقاء « (الأصدقاء – الأعداء) المشاركين بالعملية السياسية، وهي خلافات إقصائية وتهميشية، وكل طرف يريد الحصول على امتيازات على حساب الآخر، ناهيك عن تلكؤ الجهود للتوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية.
وثالثها غياب إرادة سياسية موحّدة تستطيع مواجهة التحدّيات الخطيرة لتنظيم إرهابي مثل «داعش»، ولا يمكن والحالة هذه مواجهة «داعش» بأجندات خاصة، وفي إطار استراتيجيات وتكتيكات غير متفق عليها.
ورابعها أن الخلاف يمتدّ إلى أن بعض القوى تراهن على واشنطن (الأكراد، السنّية السياسية، اتحاد القوى الوطنية)، في حين أن أخرى تشكّك بنياتها وتعتبر قصفها الجوي غير مُجدٍ، بل أحياناً فيه تواطؤ مع «داعش»، ويذهب هذا الفريق أكثر من ذلك حين يقول إنه سيقاتل الأميركيين إذا أرسلوا قوات برّية (مثلما هي الشيعية السياسية، ممثلة بمقتدى الصدر و «منظمة بدر» و «كتائب حزب الله» و «عصائب أهل الحق» وغيرهم من جماعة الحشد الشعبي). وتراهن هذه القوى على إيران وتعتبرها المنقذ أو الظهير للتصدي لقوات «داعش»، في حين تعتبرها قوى أخرى، ولاسيّما العشائر السنّية وكتلة «اتحاد القوى الوطنية» ضالعة بمسألة الهيمنة على العراق، مستغلة وجود «داعش»، بل إن خطرها لا يقلّ عن خطر «داعش».
وخامسها أن البعض يراهن على «الحشد الشعبي» الذي تدين غالبيته الساحقة بالولاء للشيعة، في حين هناك من يرفض دخوله إلى مناطق غرب وشمال العراق العربية السنّية، خصوصاً بعد الانتهاكات التي اتهم بها في تكريت، كما أن البيشمركة الكردية تعارض وجوده في المناطق التي تسيطر عليها.
وسادسها أن هناك من يدعو لتأسيس «الحرس الوطني» ليكون رافداً للجيش العراقي، خصوصاً من أهالي المحافظات ليتمكّن من إدارتها، لكن هناك مَن يرفض ذلك. حتى أن النقاش في البرلمان لم يتمخّض عن الوصول إلى اتفاق، لاسيّما بانعدام الثقة والحرب الباردة الدائرة بين « الحلفاء» الذين يشكّك أحدهم في الآخر.
وسابعها أن هناك من يطلب تسليح العشائر السنّية والبيشمركة الكردية بمعزل عن الحكومة الاتحادية، وهو ما رفضه مجلس الشيوخ الأميركي أواسط حزيران الجاري وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية من تأييدها لقراره، في حين أن القوى المتنفذة في البنتاغون تريد المضي في هذه الخطوة التي تم الترويج لها بصورة دعائية وصاخبة، وربما لأهداف بعيدة المدى.
وثامنها ازدواجية سياسة واشنطن وانتقائيتها، فهي كانت قد غضّت النظر عن وجود تنظيم «داعش» واحتلاله ما يزيد على ثلث الأراضي السورية، في حين تحركت وإن ببطء لقصف بعض مواقعه بعد احتلاله محافظة الموصل في العراق وتمدّده نحو محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي ديالى وكركوك.
وهزيمة تنظـــيم «داعش» غير ممكنة عـــسكرياً، فـــضلاً عـــن القضاء عليه سياسياً في العـــراق، إذا كـــان له عمق استراتيجي في ســـوريا، فالأمـــر يحتاج إلى اســـتراتيجية موحّدة، في العراق وســــوريا، وتعـــاون دولي وإقليمي فعّال ضده، لأنه يمثل الخـــطر الحقيقي الأكـــثر دموية، ليس على سوريا والعـــراق ودول المنطـــقة فحسب، بل إن خطـــره أصبح عـــالمياً، وحركته عابـــرة للحـدود والبلدان والقارات، بما فيها على الغرب ذاته.