نحلم، كعرب، دائماً بأن يكون هناك من يفهمنا ويتفهمنا وينصفنا، وبخاصة في أمريكا، لا نعني بذلك استئجار خدمات «لوبي» أو «جماعة ضغط»، وإنما نقصد هؤلاء الذين يكون دافعهم إنسانياً وأخلاقياً، وفهماً لثقافتنا وحضارتنا ولغتنا، واحتراماً لطموحنا ولتوقنا للحرية والتقدم، وتجاوزاً للتعامل الموسمي المتعاطف مع قضايانا العادلة.
}} ومازلنا نحلم بحليف أو صديق ينوب عنا في حروبنا السياسية، وفي حل مشكلاتنا، وقد جربنا ذلك مراراً وتكراراً، وعدنا في الأغلب بخفي حنين، وأحياناً حفاة من دونهما.
}} لم أستغرب حينما سألني صديق في موقع دوائر صناعة القرارات العربية، عن أسباب اضمحلال وجود مستعربين في السلك الدبلوماسي الأمريكي في الوقت الراهن.
}} انطوت حرقة السؤال على حمولة هائلة من الأحلام، وغياب روح العمل العربي الجماعي في الساحة الأمريكية، وانفراط عقد الجماعة العربية الأمريكية، وصعود ويقظة ورشاقة عمل الجماعات اليهودية وحلفائها في الحركة المسيحية الصهيونية، فضلاً عن استقطاب وزارة الخارجية الأمريكية لخبراء أكاديميين وباحثين في شؤون الشرق الأوسط متعاطفين مع «إسرائيل»، وبعضهم من اليهود المتعصبين وجماعات الضغط .
}} تداعت من الذاكرة حكايات دبلوماسيين مستعربين شجعان عرفت بعضهم، جسدوا معايير المهنة الدبلوماسية الأصيلة، وأتقنوا اللغة العربية وأمضوا سنوات طويلة في الدول العربية، وفهموا قضايا العرب وأنصفوها.
}} ومن السفراء المستعربين الذين عرفتهم في ثمانينات القرن الماضي السفير (تالكوت سيل) المولود في بيروت عام 1921. وقد زرته في بيته بواشنطن وشاهدت مدى اعتزازه بما لديه من موروثات ونتاج شرقي وعربي، وسجاد ومنمنمات وصور محفورة عن فلسطين وتونس، وكتب تاريخية عن العرب منها كتاب «يقظة العرب».
}} وما أكثر ذكرياته عن بيروت وعن عمله الدبلوماسي في مطلع الخمسينات في الأردن، وكان يقول «إنه فوجئ بأن نصف مجلس الوزراء الأردني كانوا تلاميذ سابقين لوالده في الجامعة الأمريكية ببيروت». وتعلم اللغة العربية على يد معلم فلسطيني، وأمضى في العالم العربي نحو ثلاثين عاماً، وعمل سفيراً في تونس عام 1973، ثم كمبعوث خاص إلى لبنان في عام 1976 بعد اغتيال السفير الأمريكي هناك، ونجح في إجلاء عائلات الدبلوماسيين الأمريكيين من دون ضجة أو مشكلات، وتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية في عملية الإجلاء، ثم نقل إلى دمشق في عام 1981.
وكانت برقياته الدبلوماسية إلى الخارجية الأمريكية تسبب التوتر العصبي لدى (فوكوياما) المفكر السياسي الذائع الصيت، صاحب أطروحة (نهاية التاريخ) التي تراجع عنها فيما بعد، وكان (فوكوياما) يعمل في ذلك الوقت في مكتب تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، وكتب ذات يوم على هوامش برقيات السفير (سيل) يقول: «تالكوت سيل، هو السفير السوري في واشنطن وليس السفير الأمريكي في دمشق». كما كتب مرة أخرى ملاحظة على هوامش برقيات سفراء مستعربين قال فيها: «إنهم يشكلون ظاهرة سوسيولوجية. إنهم نخبة داخل النخبة، ممن ظلوا مخطئين على طول الخط بأكثر من الاختصاصيين في أي مجال آخر، ذلك لأن المستعربين لم يتبنوا قضايا العرب فحسب، بل تبنوا كذلك نزوع العرب إلى خداع الذات».
}} لكن هناك من الدبلوماسيين الكبار من رد على (فوكوياما) وقالوا: «إن المستعربين أتقنوا لغة صعبة وأمضوا سنوات طويلة من عمرهم يعملون وسط بيئة أجنبية صعبة في خدمة المصالح الأمريكية».
}} ومن وجهة نظر (سيل) لم أكن متحيزاً بحكم الأمر الواقع، وحينما طفح به الكيل إزاء سياسة إدارة الرئيس ريغان ووزير خارجيته ألكسندر هيغ التي قامت على التأييد المبالغ فيه ل«إسرائيل» عمد السفير (سيل) إلى استدعاء مراسل جريدة (الواشنطن بوست) ووكالة أنباء (أسوشيتد برس) إلى مكتبه في دمشق ليعلن خبر اعتزاله السلك الدبلوماسي قائلاً «إن عملية كامب ديفيد قد وصلت منتهاها وإنه ينبغي بذل جهود لإقرار السلام ضمن إطار مختلف». ودعا إلى اعتراف أمريكا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتقد بحدة مناحيم بيغن والمستوطنات «الإسرائيلية».
في عام 1982 سمعته وهو يخاطب مؤتمر الرابطة الوطنية للعرب الأمريكيين ويقول «سيكون من واجبنا أن نقنع «إسرائيل» بأن القدس لا يمكن أن تظل مقاليدها إلى الأبد، بيد أصغر الأديان وأقلها شأناً وهي الأديان التي جعلت القدس مدينة مقدسة». لم تنته قصة (سيل) بعد أن تسللت روح الشرق إلى صدره، فقد درست إحدى بناته اللغة العربية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقامت بالتدريس في الأردن وعملت ضمن هيئة موظفي ملكة الأردن السابقة نور الحسين.
}} ومن هؤلاء الدبلوماسيين المستعربين أيضاً (هيرمان إيلتس) وهو مستعرب غير تقليدي، وكان صاحب فكر منضبط وعقلية ثاقبة وقد التحق بالسلك الدبلوماسي في عام 1947، وعمل في ليبيا والسعودية ومصر، ولصقت به صفة المستعرب، ونجح في إقامة علاقات طيبة بين الرياض وواشنطن في فترات حرجة، وبخاصة في أعقاب حرب الأيام الستة 1967، وكان من المقربين إلى الرئيس كارتر، وشهد زيارة السادات المفاجئة إلى القدس، وكان هذا الدبلوماسي المستعرب هو الذي يفسر شخصية الرئيس السادات لكارتر ولفانس وزير الخارجية، وهو الذي كان يقول لحكومته متى يكون السادات جاداً، ومتى يكون استعراضياً، وخاض الكثير من المواجهات مع كيسنجر، ومنح في عام 1992 كأس السلك الدبلوماسي وهو من أرفع الأوسمة التي يمكن لدبلوماسي أمريكي أن يحملها.
* ومن هؤلاء المستعربين أيضاً السفير (أندرو كيلجور) الذي تعلم العربية وعمل طوال ربع قرن دبلوماسياً في الدول العربية، من بينها الأردن وبغداد وقطر في عام 1980. وحينما اعتزل المهنة الدبلوماسية أصبح عنصراً نشطاً فيما يسمى باللوبي المؤيد للعرب، وسمعته وهو يتحدث أمام حشد كبير من العرب الأمريكيين وهو يقول «لن أدع أي بيان صهيوني يصدر هنا بغير دحض أو تفنيد». وقال أيضاً «إن «إسرائيل» توجه السياسة الخارجية الأمريكية». أصبح بعد ذلك رئيساً لتحرير المجلة الشهرية المسماة «تقرير واشنطن» المناهضة ل«إسرائيل».
}} وهناك مستعرب آخر تعرفه دول الخليج العربية ومن طراز غير تقليدي، ولا يعرف المجاملة الدبلوماسية، وأعني به السفير (جيم إيكنز) الذي بدأ عمله الدبلوماسي في سوريا وتعلم اللغة العربية في معهد شملان في لبنان، وعمل (إيكنز) قنصلاً في الكويت في عام 1959 ، وفي بغداد ثم أصبح مديراً لمكتب الطاقة في وزارة الخارجية الأمريكية عام 1967، وصار سفيراً في السعودية عند اندلاع حرب أكتوبر، ومن اليوم الأول للحرب طلب من مديري (أرامكو) والشركات الأمريكية العاملة في السعودية أن يستخدموا صِلاتهم ونفوذهم لكي يقنعوا أمريكا والكونغرس بأن قطع النفط العربي عن أمريكا لن يلغى إلا إذا تمت تسوية النزاع العربي «الإسرائيلي» بطريقة ترضي السعودية والعرب.
وقامت وقتها ثورة إعلامية أمريكية ضد (إيكنز) باعتباره يعزز من ابتزاز العرب لأمريكا.
كان (إيكنز) يرفض تنفيذ تعليمات كيسنجر بشأن السعودية، وحضرت عدة مقابلات له مع أحمد خليفة السويدي وزير الخارجية الإماراتية الأسبق، وسمعته يهاجم كتاباً وصحفيين أمريكيين من أنصار «إسرائيل» أمثال (وليام سافير) و(جوزيف كرافت). وكان يتهمهم بالتعصب العرقي ضد العرب.
ويبدو أن القصة التي قصمت ظهر (إيكنز) جاءت عندما عاد (ديفيد روكفلر) من رحلته من السعودية والتقى صديقه (كيسنجر) وقال له «عليك أن تتخلص من سفيرك في الرياض أولاً، هو يشوّه عرض سياستك، وثانياً إنه ملكي أكثر من الملكيين».
وتصرف كيسنجر على هذا الأساس، وطار (إيكنز).
مازالت حرقة الأسئلة والأجوبة قائمة.. ومازلنا نحلم «بجودو» المستعرب في هذه الأزمنة.
تذكرت ما قاله لي ذات يوم السيناتور الأمريكي السابق (بول فندلي) صاحب الكتاب الشهير (من يجرؤ على الكلام) وكتاب (لا سكوت بعد اليوم)، والسياسي الشجاع الذي قضى في الكونغرس اثنين وعشرين عاماً، ودافع عن القضايا العربية وعن صورة الإسلام، وعدالة القضية الفلسطينية، قال متسائلاً «لماذا لا تعيرون من يتعاطف مع قضاياكم العادلة اهتمامكم، ولا تواصلون نسج الصِلات معهم؟ لماذا تنسونهم؟». كان السؤال حارقاً تذكرته في هذه الأيام، وتذكرت أن بعض العرب يقدر عالياً ويحترم ويحتفي بالمفكر والدبلوماسي السابق والوسيط الصهيوني حتى العظم (مارتن إنديك).. سامحنا يا (بول فندلي) سامحونا.
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/132de0f1-956e-4940-a6ee-c90189b...