EN | AR
الفلسفة التاوية وصنوها الفلسفة الصوفية
الجمعة, مايو 22, 2015
الدكتور عبد الحسين شعبان

 

 

الفلسفة التاوية وصنوها الفلسفة الصوفية

 وحـــدة الوجود

والحضور بالغياب!

  

الدكتور عبد الحسين شعبان*

Dr.Hussain Shaban

 

 

* أكاديمي ومفكر عراقي، من مؤلفاته  الأخيرة: تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف، 2009، كوبا – الحلم الغامض، 2011 ، المجتمع المدني – سيرة وسيرورة، 2012، الشعب يريد- تأملات فكرية في الربيع العربي، 2012، المسيحيون: ملح العرب، 2013 والحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية، 2013..

 

تمهيد لا بدّ منه

يبدو أن الحوار العربي- الصيني لم يعد إختياراً، بل أصبح اضطراراً، خصوصاً وأن هناك الكثير من المشتركات العربية- الصينية، فضلاً عن ضرورة تبادل وجهات النظر، لا بشأن أوضاع الماضي حسب، بل بخصوص أوضاع الحاضر و المستقبل أيضاً، فما زالت الأغلبية الساحقة من المثقفين العرب حسب علمي تجهل الكثير عن الحضارة الصينية وفلسفاتها وعلومها، مثلما أحسب أن الكثير من المثقفين الصينيين يجهلون الكثير عن حضاراتنا القديمة السومرية والأشورية والبابلية وحضارة وادي النيل، فضلاً عن الحضارة العربية- الإسلامية، إضافة إلى عدم الاطلاع على نحو كاف على الأدب والثقافة المعاصرة، لكل منهما بخصوص الآخر، خصوصاً بضعف حركة الترجمة والتواصل بشكل عام، ولاسيّما في مجالات الأدب والثقافة والفن بشكل خاص(1).

أولاً : المحور الثقافي بين العرب والحضارة الصينية

وإذا كانت العلاقات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية والعلمية بين البلدان العربية وبين الصين، قد شهدت تقدّماً كبيراً في السنوات العشرين ونيّف الأخيرة، لاسيّما بعد حركة الإصلاح والإنفتاح الصينية وبعد المتغيّرات الكبيرة في الوضع الدولي، فإن المحور الثقافي ظلّ فقيراً وخاوياً إلى  حدود غير قليلة، لهذا يصبح الحوار ضرورة ثقافية ومعرفية، مثلما هو ضرورة كيانية تتعلق بالعلاقات والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة التي يمكن أن تنجم عنها، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعلمياً وتاريخياً، وهو ما أسعى لإضاءته، خصوصاً في مقاربة بين الفلسفة التاوية الصينية وصنوها الفلسفة الصوفية في الحضارة العربية- الإسلامية، و ذلك في بحث بالجذور، وما له علاقة بالمشترك الانساني.

*       *       *

وفي حين تزامنت حضارة الآشوريين والكلدانيين والآراميين وفيما بعد المسلمين مع الحضارة الصينية، إلاّ أننا لم نكن نعرف سوى القليل عن الصين وفلسفاتها، في حين إطّلع عدد منّا على فلسفات اليونان التي درسها العرب المسلمون وحافظوا عليها، ونُقلت عنهم حتى  وصلت إلى  أوروبا ومنها إلى  العالم أجمع.

ولعل قول النبي محمد " إطلب العلم ولو في الصين" هو دليل مؤكّد على ما كانت تحظى به الصين من شهرة علومها ومن صيت إيجابي، الأمر لم نقاربه الاّ على نحو بسيط ومحدود، بما فيه في التاريخ المعاصر، لاسيّما في ظل هيمنة "الغرب" وتأثيراته على مساراتنا اللاحقة وبخاصة الثقافية. وعلى الرغم من أن الصين  الحديثة حظيت باهتمام عربي منذ انتصار ثورتها الكبرى التي قادها زعيم الصين ماوتسي تونغ في العام 1949 مبتدئاً مسيرة الألف ميل بخطوة واحدة ، ولكن العلاقات العربية - الصينية ظلّت محدودة لحين حصول الانعطاف في تاريخها بعد مؤتمر باوندونغ في شهر نيسان (ابريل) العام 1955، ومن ثم اعتراف مصر بالصين الشعبية في العام 1956، وكذلك العراق بعد نجاح الثورة العراقية في 14 تموز (يوليو) العام 1958، ووقوف الصين إلى  جانبها، وهو ما مهّد لتطورات جديدة على صعيد العلاقات العربية- الصينية.

وبدأت البلدان العربية بعد هذا التاريخ تعترف بجمهورية الصين الشعبية التي استعادت مقعدها الطبيعي في مجلس الأمن، كعضو دائم العضوية في العام 1973. واستكملت الصين علاقاتها الدبلوماسية مع البلدان العربية في العام 1990.

وكانت زيارة الملك السعودي السابق (عبدالله بن عبد العزيز) إلى  الصين وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية خطوة مهمة في رفع درجة العلاقة بين الصين والعالم العربي، في أطر شراكة وتكامل، وبخاصة في المجالات الاقتصادية والاستثمارية العلمية والتكنولوجية. وقد جاء هذا التطور بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها الصين في العقود الثلاثة الماضية بانتهاجها سياسات الإصلاح والإنفتاح وسعيها الحثيث لتحديث البنية التحتية واعتماد أساليب  جديدة في الاقتصاد والادارة، الأمر الذي جعلها دولة متقدمة على الرغم من إصرارها على أنها ما تزال " دولة نامية"(2).

وعلى حد علمنا فإن أولى المحاولات لتسليط الضوء على العلاقات العربية- الصينية تعود إلى  الدكتور فيصل السامر المؤرخ العراقي المعروف، وذلك في مطلع الستينيات عند بحثه عن تراث الشرق والحضارة  الإسلامية في الشرق الأقصى (3) وفي وقت لاحق ترجم الأديب عبد المعين الملوحي " تاريخ الشعر الصيني" العام 1968-1979 (ج1وج2) وكتب الكاتب المصري محمد شبل مجلّداً عن " حكمة الصين" ، وترجم هادي العلوي كتاب التاو (طبعة أولى) في العام 1980، كذلك كتب كتاب "المُستطَرف الصيني" في وقت لاحق، وعاد ونشر كتاب التاو بطبعة موسّعة حملت إسم مؤسس التاوية لاوتسه ومعلّمها الثاني تشوانغ تسه(4).

وبعد قراءة مقالة وبضعة تعليقات عن كتاب التاو في الثمانينيات، بدأتُ الاهتمام بمعرفة شيء عن الفلسفة التاوية بخاصة والصينية بعامة. ثلاثة أصدقاء وأحد المعارف هم من لفت انتباهي إلى  الفلسفة التاوية وكلٌ بطريقته وتناوله وعرضه، كتابةً أو شفاهاً. المتميّزون الأربعة عاشوا في الصين، بعضهم درس ودرّس فيها وكانت لهم إهتمامات ومساهمات فكرية وأدبية. وكان ذلك بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، يوم أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الصين والعراق، وكان قد سبقهم إلى  ذلك زيارة قام بها القيادي الشيوعي عامر عبداللهالذي التقى بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وتأثّر بالتجربة الصينية المعاصرة وبفلسفتها القديمة كما أخبرني(5).

كما انتشرت في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات بعض الكتب الصينية المترجمة لماوتسي تونغ وليو شاوشي وآخرين، وشهدت بعض الكتب والكراريس الصينية رواجاً محدوداً في مطلع الستينيات ومُنتصفها، ولاسيما في فترة إحتدام الخلاف السوفيتي- الصيني، وكان طابعها العام سياسياً ودعائياً، فضلاً عمّا كنّا نقرأه عن وكالة أنباء شينخوا، إضافة  إلى  بعض المجلات الصينية باللغة العربية.

وكانت الثورة الثقافية الصينية منذ العام 1965 شغلاً شاغلاً للكثير من المثقفين العرب، وإنْ تفاوتت المواقف بشأنها في حينها بين مؤيّد ومندّد، لكن الاتجاه العام كان ينظر إليها بارتياب وعدم قناعة.

*     *     *

أبتدئ بالتعريف بالشخصيات الأربعة التي ذكرتها، فهي: أولاً من الشيخ محمد حسن الصوري صاحب جريدة الحضارة، وهو أديب وكاتب، عاش في ستينيات القرن الماضي في الصين حيث درّس الأدب العربي في بكين،والشخصية الثانية هي الصديق الشاعر كاظم السماوي، اليساري المعروف الذي عاش في ستينيات القرن الماضي وجزءًا من سبعينياته في بكين وتأثّر بحياتها وفلسفاتها القديمة، لاسيّما بالفلسفة الكونفوشيوسية والفلسفة التاوية، والصديق الثالث هو الباحث التراثي هادي العلوي، الذي كان مشروع فيلسوف، وهو أكثر من تأثّر بالفلسفة  التاوية بشكل خاص والفلسفة الصينية بشكل عام، وكان يعتبر نفسه سليل الحضارتين العربية - الإسلامية والتاوية -الصينية، وقد قدّم للعالم العربي دراسات وأبحاث مهمة وذات طابع إشكالي، سواءً فيما يتعلّق بالفلسفة العربية-  الإسلامية أو بخصوص الفلسفة التاوية وعلاقتها بالفلسفة الصوفية، وظلّ يتردّد على الصين حتى مطلع الثمانينيات(6). أمّا الصديق الرابع فهو الفنان التشكيلي رافع الناصري، الذي يعتبر أحد أعمدة الفن العراقي المعاصر، لاسيّما وهو الوحيد من الذين ذكرتهم ما زال على قيد الحياة، حيث يعيش في عمان حالياً، راجياً له طول العمر والمزيد من الابداع (7).

*       *       *

 

ثانيا: في رحاب الفلسفة الصينية

لا بدّ لمن يبحث في الفلسفة الصينية، أن يتناول ثلاث عقائد أساسية، على الرغم من تمايزها التاريخي، فهي متداخلة مع بعضها البعض وإنْ انشغلت كل منها بحقل معين، وهذه العقائد هي:

1-   الفلسفة الكونفوشيوسية، التي تبحث في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة، وهي تعلّم كيفية تطبيق الإنسان لقواعد النظام العام. وقد أولت اهتماماً متميّزاً بالتعليم دون تمييز وذلك قبل نحو 2500 عام، كما أعطت اهتماماً بالعائلة ودورها في بناء المجتمع بتأكيد احترام السلالة والدعوة إلى  التفاهم والتعاون الأسري، وبقدر كون العائلة مستقرّة فسيكون المجتمع مستقرّاً. وقدّرت الكونفوشيوسية الكفاءة والاجتهاد، فجهود الإنسان مهمة جداً لتحقيق النجاح، ودعت  إلى  وضع مصلحة الدولة فوق المصلحة الشخصية، وقد حاولت الفلسفة الصينية المعاصرة استلهام هذه المبادئ لإدماج الماضي بالحاضر، في إطارالتفاعل والتواصل بين التراث والحداثة، مع بعض التحفّظات حول الجوانب السلبية في الكونفوشيوسية.

2-   الفلسفة البوذية وتركّز على علاقة الإنسان بذاته وبمن خلق الكون. وقد أراد بوذا نشر الوعي بين الناس وزرع النقاء في نفوس بني البشر، وصبّ جلّ اهتمامه على الحقيقة التي عنده: أمّا بيضاء أو سوداء، ويستحيل أن تكون رمادية.

ولم يتحدّث بوذا عن الله وصفاته الحميدة، كما لم يتطرّق  إلى  الجنّة، وترك كل ذلك  إلى الإنسان كي يكشف عنه بنفسه حتى لا يسلبه إرادته ويفقد معنى الذات "الأنا"، ولم يشأ أن يزرع في الرأس فكرة "الأخذ " (أخذت زوجة ، أخذت بيتاً، أخذت قيلولة....) بل إتّخذتُ زوجاً واتّخذت سُنّةَ من النوم وهكذا، ويدعو بوذا إلى روحانية لها نكهة خاصة، نكهة اللاّ "عالم آخر" واللاّ " عالم دنيوي" هي روحانية يقظة، فترى وتسمع بقدر ما تكون واعياً، وإنه بقدر ما تكون مُدركاً للحقيقة، بقدر ما تكون منسجماً مع نفسك وتصبح أكثر وعياً.

الوعي هو الذي يمنحك الوجود واللاّوعي يمحوه ويزيله، وهكذا فإن رسالة الفلسفة البوذية هي الدعوة لإدراك الوعي، فبالوعي تولد من جديد... " تولد نقياً طاهراً، تولد من دون " الأنا"، تولد مستعدّاً لتكون حرًّا وليس عبداً" وعلى هذا الأساس، فإنها تدعو لقتل الشهوات والتخلّي عن الغرائز إلى "النيرفانا" حتى لا تكون عبداً لشهوتك وغرائزك، وهذه الكلمة تعني بالهندية إطفاء الشمعة (قتل الرغبات والغرائز)، أي إطفاء النيران ليختفي اللهيب، وهو ما يعتبره مكمن الجمال، لأنّ الرغبات والغرائز، هي مصدر التعاسة وسبب العذاب والشقاء(8).

3-   الفلسفة التاوية، وهي فلسفة تعالج علاقة الإنسان بالوجود والحياة، ولاسيما من خلال التناغم الكلّي بين داخل الإنسان وخارجه، وصولاً للانسجام الكلي، أي إلى  مرحلة "التاو"، وهذا الأخير هو عبارة عن درجة التوازن والتكامل بين طاقتي الوجود أو ثنائياته، وذلك عن طريق الين واليان (اليانغ)، (العلاقة بين السالب والموجب) وهي أقرب إلى  المؤنث والمذكّر والبارد والساخن، بحيث لا يمكن أن يوجد طرف دون الطرف الآخر، فالليل لا معنى له دون النهار، والذكر دون الأنثى، هكذا تتجاور وتتوازن وتتكامل الأضداد في هارموني جدلي لا غنى عنه. وإذا كان اليان دليلاً على صفة الذكورة، فإن الين هي صفة الانوثة. ويعدّ لاوتسهأو لاوتسو مؤسّس الفلسفة التاوية، ولاو تعني "الأستاذ" وقد عاصر لاوتسه كونفوشيوس، ويذهب البعض إلى  أن لاوتسه أكبر من كونفوشيوس بنحو 50 عاماً ولهذا يعدّونه الفيلسوف الأول.(9)

وإذا كانت الفلسفة الكونفوشيوسية هي المظهر الخارجي للصينيين، فإن روحهم هي الفلسفة التاوية، ولعلّ الحضارة الصينية بشكلها وروحها مثّلت التوازن.  خصوصاً وأنه جاء بصيغ شعرية. أغلب الظن أن فلسفة التاو Taoism تعود إلى  فترة ما بين القرنين الرابع والسادس قبل الميلاد، وهناك من يذهب إلى أنها نشأت قبل هذا التاريخ، لكن معظم المصادر تذهب إلى إرجاع كتاب التاو إلى "أسرة هان" الملكية "Han" التي قامت بتوحيد المدارس الفلسفية في مدرسة واحدة لدعم شرعية الاْسرة الملكية وحكمها المركزي. وهناك من يقسّمها إلى مراحل، هي مرحلة ياوتشو الذي سبق لاوتسه والذي يأتي بعده والذي استظهر النواميس الحاكمة في الأشياء بوصفها ثابتة والأشياء متغيّرة، ثم يأتي دور تشوانغ تسه الذي دعا إلى  المساواة وإلغاء الفروق بين الأشياء، بين الحياة والموت والذات والآخر، من أجل تجاوز العالم الكائن إلى عالم آخر، تتروّض فيه النفس البشرية من غير الحاجة إلى الاعتكاف أو الخلوة، حسب تعبير هادي العلوي.

وقد انقسمت التاوية لاحقاً إلى تاوية فلسفية أو ثقافية (تاوجينا) وتاوية دينية (تاوجياو) والتاوية تعنيالصراط مثلما استخدمت في الفلسفة أو الثقافة أو المبدأ والمآل الذي تأتي منه وتعود إليه كل الأشياء، والتاو هو القانون الطبيعي أو الكيان الذاتي للاشياء، لكن الأساس في التاو هو الاطلاق.

التاوية ككل العقائد تتكون من جوهر فكري وآخر عملي يتعلّق بالطقوس والحكايات الرمزية، وهي تدعو إلى الاعتزاز بالذات والعزلة عن الحياة العامة واتّباع نوع من التصوّف والعبادة التأملية التي إرتبطت باليوغا الخاصة بها. وهي المنهج أو الطريقة التي يمكن الاستدلال بواسطتها على الوحدة الكلية المطلقة للوجود، تلك التي تشمل الموجودات جميعها من المجرّات السماوية إلى النجوم والكواكب وصولاً إلى الانسان، وهذا المبدأ هو الذي يفسّر خلق الأشياء وابتدائها وكذلك طريقة تغيّرها عبر الزمن.

إنه منهج يدخل إلى الكُنه والجوهر، وهو بحاجة إلى تهيئة ومران وتأمّل وحدس وتجارب، وهكذا استفادت التاوية من فلسفة الزن البوذية Zen Buddhism، وكذلك من الطقوس الكونفوشيسية، بهدف تحضير العقل الباطن الذي يساعد على الفهم والادراك.

وإذا كانت ثمت ثنائيات تناقضية مثل الخير والشر، الجمال والقبح، فإن التاوية تتعامل معها باعتبارها ثنائية تكاملية الين + اليان، أي أن الخير هو انسجام وتكامل في الثنائيات، كما أن أية مغالاة في دور أي منهما سيعني الاختلال في التوازن على حساب الطرف الآخر، الرجل والمرأة، الدين والدنيا، الحاكم والمحكوم، الفرد والمجتمع، وهكذا فإن التوازن يعني الخير، أما غلبة أحدهما على الآخر، فليس سوى الشر(والنار والنور كينونة الوجود).

*       *       *

ثالثاً: وحدة الوجود في الفلسفة التاوية

إن وحدة الوجود تدمج الإنسان بالعالم المطلق، التي هي حسب فلسفة التاو  صورة الإنسان المُكتمل، الفائق الإنسانية، وهذه تجد انعكاساتها في العديد من الفلسفات والأديان، مثلما هي في المسيحية والفلسفة العربية- الإسلامية، وذلك انطلاقاً من مفاهيم وحدة الوجود والمعيّة (الله معكم أينما كنتم). فالتاو يقوم على القوة المادية في الموجودات، وهو ما ذهب إليه صدر الدين الشيرازي الذي جعل الله حضوراً فعلياً في الموجودات، انطلاقاً من مذهب  "الحلولية"!.

التاوية تؤمن بوحدة الوجود، أي أن الخالق والمخلوق متّحدان في شيء واحد، لا يمكن فصلهما والاّ سيحدث الفناء. ولعلّ هذه النظرة إلى الإله هي الأقرب إلى مذهب الحلولية، الذي يعني أن الخالق لا يستطيع أن يعمل أو يتصرّف الاّ بحلوله في الأشياء، وذلك هو القانون الأعظم لجميع الموجودات في السماء والأرض.

 ولعلّ مواصفات الصوفي تقوم على التخلّي والتحلّي والتجلّي ،وذلك لتزكية النفس بمعنى التخلّي عن ما يفسد العقل والروح من أمور الدنيا ومتطلباتها، ثم التحلّي أي بمواصفات الخير، ثم التجلّي بالحق وصولاً إلى الله، حيث التماهي المطلق. والتخلّي والتحلّي هما من صفات الإنسان "العبد"، وهما عبارة عن مجاهدة ورياضة نفسية باطنية ومنازعة وتعب وترويض وتهذيب من الإنسان لنفسه، ليتمَّ تطعيمها بالمعاني العلوية الشريفة والراقية والمواظبة على إروائها بالذِكرِ والشكر وصدق التوجّه والسير إلى  الله.

وهكذا يصبح التجلّي نتيجة للتخلّي والتحلّي، وهو من فعل الخالق، مثلما هو تصرف ربّاني وشأن إلهي، يصل إليه المرء بإرادة عليا عبر التخلّي والتحلّي، بحيث يفيض الله على تلك النفس أنوار معرفته. ويعتبر التخلّي أشقى المراحل وأصعبها وأشدّها، لأنه مخالفة وجراحة واستئصالاً للتشوّهات النفسية وتنقية النفس من الشوائب التي علقت فيها واعتادت عليها فترة طويلة.(10)

إن وحدة الوجود تقوم على اندماج وتماهي الإنسان الذي يتحوّل من مجرد شخص إلى  ظاهرة، ومن فرد إلى  حركة، لاسيّما إذا تمسّك بالزهد وتخلّى عن الفائض في مطالب الجسد لإكمال "التروّض"، وذلك حين يصبح الجسد منطلقاً لحركة روحية لا متناهية، وحسب النظرية الصوفية: الإنسان هو المثال للعالم الأكبر، وفيه كلّ ما في هذا العالم بالمطلق، لا سلطة عليه، وعلاقته بروح الكون، أي بالتاو، وفي الصوفية تكون علاقته بالحق، وقد عرفت الفلسفة التاوية علاقة التشبّه بالخالق على قدر الطاقة باتحاد الخالق بالمخلوق، وفي الصوفية تقوم وحدة الخالق والمخلوق: أي تؤلّه الإنسان وتؤنسن الإله.

الصوفي لا يخشى الموت لأن الموت في التصوّف هو استكمال للتطور نحو الإنسان المكتمل، وحسب الشيرازي هو قوة تجوهر النفس واشتدادها في الوجود، ولذلك فالتاويون يغنّون للموتى ولا ينوحون عليهم، كما أن الصوفي لا يخشى الفقر لأنه فقير باختياره، والفقر عنده شرط الحرية، وهمومه العامة تعلو على همومه الشخصية، بحيث يصبح فاعلاً لا منفعلاً في المحيط.

تؤمن التاوية بمبدأ دورية الزمن Cyclical، أي لا نقطة بداية ولا نقطة نهاية للأشياء والتاريخ والوجود، وهكذا يصبح كل شيء في الكون يمرّ بدورة كاملة تبدأ بالنشوء ثم الميلاد ثم الطفولة والشباب، حتى مرحلة النضج والقوة القصوى، ثم الأفول والانحلال وصولاً إلى  الموت، حيث تبدأ من إستلام هذه الدورة دورة أخرى، تحمل بذورَ ازدهارها ودمارها معاً في آن واحد، والدورة تبدأ من دورة اليوم الواحد إلى  دورة المواسم السنوية، وفي دورة الطبيعة، في الإخصاب والإنبات ثم الازدهار والذبول والموت.

الوحدة الوجودية لا يمكن تحققّها إلاّ بالتكامل والتوازن بين القطبين (اليان- الموجب والين- السالب) وعند التعادل بين اليان والين تكون الأشياء سليمة والجسم معافى والخير عميم، وعندما يختلُّ التوازن والتكامل يحدث الصراع والانقسام والمرض والحزن والشقاء والجوع والمشاكل.

الوجود هو تجلّي للتاو الذي هو التوازن والتعادل بين اليان والين، بين الذكورة والأنوثة، والأرض والشمس، والضوء والظلام، والحرارة والبرودة، إذْ أن وجود أحدهما ملزم بوجود الآخر، فالظلام لا يوجد من غير النور والليل لا يوجد دون النهار، وهكذا التكامل والتناقض هو أساس إنتاج الطاقة، وهي أصل الحركة. إن سرّ الوجود هو في التناقض، وتتغير الظواهر تبعاً لتغيّير الطاقة الداخلية الناجمة عن تفاعل اليان والين، ففي الحرب توجد بذور السلام، والعكس، وفي المرض هناك الصحة، وفي الأخيرة بذور المرض.

ولا توجد ظاهرة في الوجود تنعتق من دون التاو، إنه قانون الحضور والغياب Presence in absence ويتكوّن الوجود من خمسة عناصر أساسية هي: الماء والحديد والنار والأرض والخشب.

تقوم التاوية على الوحدة والتغيير، وهي أقرب إلى  فلسفة الديالكتيك لدى هيغل وقبله الفلسفة اليونانية التي قامت هي الأخرى على 5 عناصر هي: الماء والهواء والأرض والنار والفكرة، وكان هيراقليتوس قد قال إن التغيير يحدث نتيجة صراع الأضداد وبموجبه يتم تفسير الظواهر الكونية. وحسب هيغل فإن أصل الظاهرة توجد في الفكرة التي تحوي في داخلها نقيضها، وينتج الصراع بين الفكرة ونقيضها حالة ثالثة، تعود لتصبح مع الزمن حالة أولى بوجود الشيء ونقيضه داخله، وهو ما يفسّر حركة الوجود والتاريخ وعملية التغيير، وقد أخذماركس ذلك عن هيغل وقلب جدليته المثالية التي تقوم على الحقيقة المطلقة المتجسّدة في الإله إلى  جدلية مادية.(11)

ولعلّ المدارس الفيزيائية الحديثة تعتمد على نظرية التوازن والتكامل بين السالب والموجب في وحدة كلية تشكّل الأساس في تكوين الأشياء، فالذرّة مكوّنة من نواة وهي مؤلفة من ألكترونات ذات شحنات موجبة وأخرى سالبة، أما النيوترونات فتكون متعادلة الشحنة.

وتنطلق التعاليم التاوية من الوجود الكوني مثلما تخصّ الجوهر الإنساني، وحتى الطب الصيني ليس بعيداً عن تطبيقاتها، حيث أن جسم الإنسان يقوم على الطاقتين المتكاملتين، اليان والين، أي الساخن والبارد، وليست الصحة والعافية سوى التوازن بين هاتين الطاقتين، أما المرض فيعني أن ثمت اختلال في توازنهما، وهذا الأمر ينطبق على خارج وداخل جسم الإنسان من القدمين وهما الين إلى  الذراعين وهما اليان، ومن الجلد إلى  ما في داخل الأحشاء.

والتاوية كانت تتحدّث عن البداية، فإن للبداية بدايات: يقول هواي نان: كانت هناك بداية، وكانت هناك بداية تسبق هذه البداية، وكانت هناك أسبقية حتى قبل أسبقية هذه البداية، وكان ثمت الوجود وكان ثمت اللاّوجود. البداية إذن ليست بداية وهي متعدّدة ومتناوبة (12).

والمرض ليس دليل ضعف، بل دعوة من جسم الإنسان لإعادة النظر في توازنه من خلال تحسين غذائه وأدويته الاعشابية والأبر الصينية، وإعطاء فرصة أكبر للتحرّك في أنحاء الجسم وتقليل الطاقة الزائدة وزيادة الطاقة الناقصة. وتدخل نظرية التاو في علاج بعض الأمراض وفي الحميات الغذائية الدوائية لكثير من الأمراض والطب النفسي والشيزوفيرينا وغيرها. إن حضور التاو  ساكن وكامن، لا يُدركْ بالحدس.

*       *       *

 

رابعاً: الصوفية والتاوية : تناظرات و مقارنات

تقول حكمة صينية قديمة " إذا أنت لم تقارن فأنت لا تعرف"، والمقارنة تعني التناظر والتماثل والاختلاف، وفي تاريخ الصين الحديثة ثمت من يأخذ بهذه الحكمة كما يقول الاصلاحي كانج يو وي (1858- 1927) :إعرف حكمة القدماء وعايش العصر. وقد حاولت عند بحث الفلسفة التاوية أن أقارنها بالفلسفة الصوفية، التي أعتقد أنها صنوها، ولعل نموذجي المعاصر هو المفكر العراقي هادي العلوي، وبقدر إيمانه بالفلسفة الصوفية، فقد لقّحها بالفلسفة التاوية بهدف التكامل.

كان هادي العلوي قد تأثّر بالصوفية، لكن صوفيته لم تكتمل الاّ من خلال تاويته، ومقامه من الصوفية استند إلى ثلاثة أركان هي: السفر والغربة والمشاهدة، فقد تنقّل واغترب وشاهد، واضطّر إلى  الرحيل، مُغترباً روحياً وفكرياً، في غربة صوفية، وليست اغتراباً، ذلك أن غربة الصوفي هي اختيارٌ وممانعةٌ، أمّا الاغتراب فهو اضطرار وهيمنة، وهكذا تصبح الغربة هنا موجبة، في حين أن الاغتراب سالب.

وبحسب محي الدين بن عربي: الأسفار ثلاثة: سفرٌ من عنده وسفرٌ إليه وسفرٌ فيه ، وهذا السفر هو سفر التيْهِ والحيْرة، وسفرُ التيه والحيرة لا غاية له!!.

يندمج المتصوّف بروح الكون الذي يسمّيه الحق وهو التاو عن الصينيين ومن عناصره: الاشراق والفناء والتّجلي والرؤية والرؤيا. إن المتصوّف هو روح خالصة تستنبط الوجود بتجلياته ومطلقياته، فهناك تصوّف معرفي أو تصوّف إجتماعي أو تصوّف إهتيامي (عشقي)، في حين ينحاز العلوي إلى  التاوية الفلسفية ويبتعد عن التاوية الدينية.

وتتوافق التاوية مع الإسلام بخصوص فكرة الإله، حين تقول أنه لا صوت ولا صورة له، فهو أبدي لا يُفنى، وجوده سابق وجود غيره، وهو أصل الموجودات وروحه تجري فيها. التاو هو المطلق الكائن، وهو مُراد الكون وليس منفصلاً عنه، بل هو في داخله جوهرياً (13). وجذر العلاقة بين التاو والصوفية قام على المشاعية والترفّع من الخساسات الثلاث، السلطة والمال والجنس.

إن مبدأ وحدة الوجود لدى ﺇبن عربي يتطابق تقريباً مع الفلسفة التاوية، فهو عالم لا حدود له، ومن صفاته الحق والخلق. ﺇن التصوّف شكل من أشكال الربوبية التي تستبعد الدين لحساب روحانية كونية، بحيث يصبح الإله هو الوجود الحق، وهو أقرب إلى  تجريد مطلق . انه ظاهر وباطن، حاضرٌ وغائبٌ، يتمثّل بالجمال والجلال والرضا والغضب، وهو ما ذهب إليه محمد بن عبد الجبار النفّري أحد روّاد الحركة الصوفية، الذي كان قد قال: إنّي أحدّثك لترى، فإن رأيت فلا حديث!.

كان الله هو الهدف الأسمى لفلسفة أهل الطريق، وكان شعارهم الدائم: "لا مقصود إلاّ الله"، وقد ركّز النفّري على فلسفة الإزاحة والعبور، اللذين هما سُلّمه في الاتصال والوصول وشرطهما هو التخلّي والتحلّي، وقصد بالتخلي عن جميع العوائق والسواتر التي تغلّف الذات الإنسانية، وتقف حاجزاً سميكاً بينها وبين الحقيقة المطلقة (أي الحُجب) بشكلها الظاهري (والبرازخ) بشكلها الباطني، سواءً مادية "ظلمانية" أو معنوية "نورانية". والتحلّي عنده يعني أن يتحلّى أصحاب السلوك العرفاني والصوفي بالأسماء الإلهية التي تسري في وجودهم بشكل خاص، والغاية هي التكامل ليكونوا شهود الحق مادياً ومعنوياً. (14)

وكان التجلّي عند ابن عربي وجودياً، أي عالمياً، إلهياً، دائماً مع الأنفاس أو عرفانياً وهو نوع من أنواع الكشف يفني المتجلّي له، فيورثه علماً  لونياً (باطنياً)، فيغلبه سلطان الوجد وحالة الفناء بالوجود أو خلقياً أي نصيبها من الحق الالهي.

ويلخّص الغزالي مراحل التجربة  الصوفية بالتخلّي والتحلّي والتجلّي، الأولى: بالتخلّي عن الشهوات، والثانيةالتحلّي بالعبادات، والثالثة: التجلّي بالذات الالهية، وفي ذلك شيء من الشك الديكارتي الذي يُعثر عليه بالمعرفة الصوفية الروحانية، في حين اكتشف ديكارت ذلك بالمعرفة العقلية (15).

ينقل العلوي عن لاوتسه قوله  " الإنسان الإعتدائي لا يموت موتة طبيعية " وينقل عن الفلسفة  الإسلامية  " وبشّر القاتل بالقتل ".  وذهب في الفلسفة التاويـة حول الحكمة التي تقول:  " إن تدري أنّك لا تدري فذلك منتهى الحكمة " . وهو ما ذهب إليه العلماء المسلمون الذين قالوا :" نصف العقل أن تقول لا أدري"

وقد قال الفيلسوف التاوي  تشيه شيه في انتقاد النائحين على الفيلسوف  لاوتسه  عند وفاته  " و عندما جاء الأستاذ فلأنه إمتلك المناسبة لأن يولد، وعندما رحل فلأنه اتّبـع  مجرى الطبيعة . . . "  و لا فرق بين هذا القول و قول الكندي في رسالة دفـع الأحزان  "الموت هو تمام طبائعنا " .

        وحول معادلة الحسّي بالروحاني يقارن العلوي أيضاً، الفلسفة التاوية الصينية بالفلسفة العربية  – الإسلامية ، اللتان مثّلتاه هو شخصياً في ثنائيته، فمن خلال التثقيف الأخلاقي والذهني يعود الكائن الجزئي إلى  التطابق مع القوة الكونية الفعّالة والإتحاد مع المبدأ الاول، أي تلاقح الحسّي بالروحاني .

وهي الفكرة التي أخذ بها الرازي حين أكّد على الأخلاق أساساً لفلسفته، وحسب الشيرازي فإن الإنسان هو آخر كائن في مسلسل الطبيعة ، ثم تبدأ روحه بالترقّي بعد أن استكمل جسده ترقّيه من الحيوانية إلى  البشرية، حتى تندمج في العالم الكلي .

        إنّ العلوي حين يحاول الوصول إلى  هدف توازن الروحي بالحسّي فإنما يسـعى لتحرّر الفرد لمواجهة الدولة والدين والمال ، أي مسـؤولية المثقف للإرتقاء  بالوعي الذهني الذي يحصل بالفلسفة وهو ما يطلق عليـه  " مثلّث السلطات "  و لربّما يقصد  "مثلث الخطـايا "،  ذلك  لأنه كان يسـبح في فضاءات عالية ومتّصلة من لاوتسـه إلى  الحلاّج نموذجاً التصوف الاجتماعي ، في حين كان نموذجه للتصوّف العقلي المعرفي هو المعرّي وابن عربي .

 

خامساً: المثقـف الكـونـي (16)

         ما الذي يعنيه  العلوي " بالمثقف الكوني " ؟  وهل يوجد نموذج له ؟

المثقف الكوني حسب العلوي، هو المتصّوف أو التاوي، الذي يتميّز بالتجرّد الكامل              واللاّتشخّص واللاّحدود واللاّتناهي. و يقوم على الوحدة المطلقة بإلغاء المسافة بين الخلق والخالق والتوحّد معهما.

         ويضيف العلوي صفات أخرى على  " المثقف الكوني "   الذي يفترض فيه عمق  الـوعـي  المعرفي والاجتماعي معاً ، وعمق  الـروحانيـة  في الوقت نفسه . أي أن يكون قوّياً أمام مطالب الجسد و مترفّعاً عن خساسات السلطة والمال والدين، ويحاول العلوي أن يقدّم نموذج " المثقف الكوني"  من خلال التماهي مع أهل الحق في الإسلام و التاويين في الصين والسيد المسيح (17)، أي التماهي مع روح الخالق بعيداً عن السلطة، والتعفّف من المال، مردّداً قول المسيح ، حين دعا إلى  إخراج  " الأغنياء من ملكوت السماء " .

         ويمنح العلوي مثقّفه الكوني، هوّية معارضة ، أي لقاحية كما يسميها لمواجهة التشخّص والمحدودية والتناهي، وبذلك يفسح في المجال أمامه لاختيار الطريق للوصول إلى  الله – الحق، والانحياز ضد مركزية الدولة، و الدين المُمَأسس والأغنياء .

        ومن تكوينات المثقف الكوني لدى العلوي : التعالي عن اللذائذ ، بحيث يأخذ من الحياة مايفرضه دوامها ، فيأكل عند الحاجة و ينام عندما يغلبه النوم و لا يملك شيئاً لئلاّ يملكه شيء وهو كبير وقوي و" حاكم " ( المقصود حر و غير خاضع لسلطة )  لا صغير  أو ضعيف أو محكوم.

       ويوجّه العلوي نقداً إلى  المثقفين المعاصرين العرب، فلا يستثني أحداً ، و ذلك وفقاً لقياساته المسطرية: المثقفون مأخوذون بالخساسات الثلاث،  يجعلونها من صميم العمل الثقافي، ويمضي إلى القول: لقد سبقني إلى معاداة المثقف شيخنا  فلاديمير لينين حين  إتهمهم  بالرخاوة والروح  البرجوازية. و قد أطلق عليهم  العلوي  اسـم "شيوعية الأفنديـة " ( وكلمة الأفندي باللغة التركية تعني "السيد الكبير" )، ويقصد العلوي بهذا النمط الفريق الذي يقوم على الآيديولوجيا الصرفة، المجردة من اليوتوبيا والمقطوعة عن ساحة الصراع .(18)

وأعتقد أن العلوي تأثّر في إطروحاته هذه، بأجواء الثورة الثقافية في الصين التي أطاحت بعدد من مراكز القوى حينها، لاسيّما ببعض الشخصيات الثقافية، خصوصاً اتهامها للمثقفين بالرخاوة والهشاشة وسرعة العطب، محمّلة إياهم روح التسيّب وعدم الانضباط فضلاً عن التأثّر بالافكار البرجوازية المعادية، وعلى الرغم من أن الصين حاولت إعادة النظر بما سمّي بالثورة الثقافية التي كان ذروتها مدّة  10 سنوات تقريباً (1965-1975)، وبخاصة بعد وفاة ماوتسي تونغ، ومن ثم تخطئة هذا المسار والإطاحة بعصابة الأربعة ومن بينهم زوجة الزعيم الراحل وتحميلهم ما حصل إبان الثورة الثقافية، الاّ أن هادي العلوي ظلّ متمسكاً فعلياً بأطروحتها حتى رحيله، بل ويعتبر ما أعقبها، لاسيّما بعد العام 1978-1979 من إصلاح وإنفتاح، إنما هو انحراف وتقهقر.(19)

        ويعتبر هادي العلوي إن المثقف الصوفي ومن في حكمه متروحِنْ بعلاقة مزدوجة بين الروح الكونية ، التي يسميها "الباري" أو "الحق" أو التاو ، مع الخَلق  في آن واحد، وبتلك  "الرَوْحنة "  يكتسب  المثقف حسب العلوي  الطاقة الاستثنائية  التي تضعه في مواجهة السلطات الثلاث. وفي هذا الطور الأعلى من الإستقطاب أو القطبانية يتخلّى المثقف الكوني  عن اللذائذية ، بإختلافه عن عـالِم الدين  وربما عالِم الطبيعة. انه بذلك  يعبّر عن  نكران ذاته وتخلّيه عن حقوقه لصالح  الإنسان (الآخر) ،  و هو يردّد قول عبد القادر الجيلي  "أفضل الأعمال إطعام الجياع "  حين يتمّنى أن يملك الدنيا  ليوزّعها على الفقراء ، فتلك كانت  رؤيـة العلوي الحقيقية إزاء الفقراء، فقد كان لا يريد بقاء الامتيازات محاصصة – بين  "أهل الدولة"  و"أهل الدين" ، بل تساوياً مع العامة . (20)

     ويقول العلوي بأحكامه القاطعة تلك :  قلّما أجد مثقفاً يرضى بالكفاف في العيش أو يقنع بإمرأة واحدة هي زوجته  أو يتع إلى على الشهرة و الجاه ! حتى  أدونيس  أعظم مثقف عربي معاصر على حد تعبيره حين يناقشه، ينتقد حصوله على  " وسام " من سلطان عربي معاصر ( حاكم )، ولأنه مازال يشعر بالاحترام لجائزة نوبل .

        وضع العلوي  أعداء  " المثقف الكـوني " في دوائر أربعة  أسماهم  الأغيار الأربعة وهم :  الحكّام و المثقفون والرأسمالية والاستعمار ، معبّراً  في بياناته  المشاعية و علاقاته الروحانية عن تحديّهم، ولاسيّما وإنه كان يعيش بفكره مع شيوخ الصوفية والتاوية، قائلاً: أنا أعيش بينهم و أكلّمهم و أنا دائم الحديث مع النفس في الخلوات، من لاوتسـه إلى  محي الدين بن عربي . (21)

        ويُعدّ المثقف في الفلسفة التاوية هو "الحكيم" المتحرر من عبودية الأشياء والرغبات: فهو لا يرغب بشيء ولا يمتلك شيء ولا يأخذ شيء ولا يحتاج إلى  شيء ولا يتفاخر أو يتظاهر بشيء، إنها حكمة سلب الغريزة والطباع من حاكميتها. إنه خلاء كالتاو وهو ممتلئ في الآن ذاته، إنه متطهّرٌ من الشوائب والمشاغل، ليوجد داخله فراغاً هو الاكتمال بلوغاً للذروة.

وإذا كان المثقف الكوني حسب مقاسات هادي العلوي وتأثّره بالفلسفة الصوفية وبالفلسفة التاوية، عسيراً أو صعب المنال، فلعلّي هنا قد لا أكون مبالغاً إذا اعتبرتُ أن ما يقصده، إنما ينطبق عليه إلى  حدود معيّنة، حيث عاش زاهداً متروحناً، مُعدماً، متواضعاً، مترفّعاً عن الخساسات الثلاثة، وحاول أن يوفّق إلى  حدود غير قليلة بين ما يقوله وما يكتبه، وبين سلوكه العملي، لدرجة أنهما أحياناً يتماهيان أو يصبحان وحدة متّصلة ومتواصلة ، وإنْ كان ثمت مفارقات بينها، لا يتّسع المجال للحديث عنها.

سادساً: "  أدب الحـب "

على خلاف نظام الطبيعة الذي يعتمد على التّضاد في وجوده وفعله ، فإن جمال العلاقة الروحية بين البشر تقوم على مبدأ الشبيه يجذب شبيهه. واذا كان ديمقراطيس قد كشف عن أن اتحاد الذرّات يقوم على التناقض لا التماثل وهو ما أوضحته فلسفة  هيراقليس والتاويين، فان العلاقة بين روح الذكر والانثى ، بين الرجل والمرأة تقوم على التجاذب والتشابه . وحسب الحديث الشريف  " الأرواحُ جنودٌ مجنّدة ما تعارف منها إئتلف وما تناكر إختلفْ " فالتعارف والتواصل يؤدي إلى التكامل والإئتلاف، أي الاتحاد والتزواج ، بعكس ما اختلف بحيث يؤدي إلى  التّضاد والتناقض .

الحـب  لدى هادي العلوي شـرقي، لأنه علاقة مشاعية في الشرق كما يقول.  والشرق هو آسيا  تكوين مشاعي، و مدار الشرق ووجدانه على اتساع رقعة الملكية المشاعية فيه . (22)

والمشاعية  تعني نـزاهة الإنسان عن علاقات البيع و الشراء و فراغ ذهنه من شحنات التوتر  السوقي  ( نسبة إلى السوق و التبادل التجاري ) ، الذي يصيب الإنسان جرّاء  التفكير  الزائد في  المال ووسائل حفظـه، المال لدى لاوتسه  و يسوع يستلزم  كلفتين: الأولى -  الحصول عليه  والثانية – حفظه، ولذلك لا يعتبر العلوي التملّك غريزة ، بل صفة مكتسبة، وقد يكون في ذلك رغبة في النـزوع إلى الحق المطلق  " المثالي "  والوقوف ضد الاستغلال.

ولكنني أعتقد ان الرغبة في التملّك متأصلةٌ في الإنسان وفي النفس البشرية ، إضافة إلى  أنها حق شخصي للانسان، ولذلك أدرجها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام  1948، باعتبارها أحد حقوق الانسان، التي لايجوز التجاوز عليها. ونصّت المادة السابعة عشر من الإعلان العالمي على ما يلي:  لكل شخص حق التملّك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكيته تعسفاً، وذلك عندي أقرب إلى  طبيعة النفس البشرية على مّر التاريخ ، كما يذهب إلى  ذلك عالم الاجتماع العراقي الدكتور علـي الوردي والعديد من علماء الاجتماع و علماء النفس و غيرهم . لذلك انشغلت الدساتير والقوانين والأنظمة على مرّ العصور لتنظيم الملكية وتحديدها سواءً كانت الملكية الفردية أو الاجتماعية ، بحيث تعود بالنفع على المجتمع ككل، وهذا هو جوهر الصراع بين المدارس الفكرية والفلسفية ، المادية والمثالية .

أما الجنس فيعدّه العلوي غريزة يتساوى في طلبها المثقف الشرقي والحاكم الشرقي،  ولكن الأول يطلب القليل والثانـي لا يرتضي بالكـثير. وهنا أيضاً أجد نفسي في إختلاف مع المفكر العلوي ، فالجنس كما أشار حاجة إنسانية ، وإشباع هذه الحاجة يتساوى فيها الغني والفقير والحاكم والمحكوم والمثقف وغير المثقف. صحيح أن الظروف الاجتماعية ودرجة التطور والوعي والوفرة المالية قد تحدّ أو تزيد من مدى إشباع هذه الرغبة، ولكن الأساس فيها يبقى هو الحاجة الإنسانية بغض النظر عن الاختلاف في الموقع الاجتماعي أو درجة  الثقافة  أو القرب أو البعد عن السـلطة . . .الخ . (23)

 في اللغة العربية هناك عشر مفردات للحب و عشرون لفعل الحب و أربعون لمشتقاته، أمّا في اللغة الكردية  فهناك  10  مفردات مع مشتقاتها ، وفي  اللغة  الفارسية  هناك  6  مفردات ( ثلاثة منها أصلية  و ثلاثة من إصول عربية للحب  هي  العشق  والوله والمحبة).  و يعتبر العلوي في تصنيفاته تلك إن العشق هو مدار الاهتيامية الفارسية  . أمّا في اللغة الانكليزية  فللحب مفردة  واحدة  أساسية  هي Love،  أمّا Like   فهي تشبه مبدأ الشبيه، وأمّا كلمة  Erotic  فهي تعني الجنسية الشهوانية.

إن التفاوت في الحكم اللغوي حسب العلوي  يعكس تفاوتاً في الكم الوجداني، فالإنسان يعّبر عمّا يمارسه في حياته العملية و يحوّله إلى  لغة، ولذلك نجد كثرة مفردات الحب في اللغة العربية، و هو ما نتّفق به مع العلوي.(24)  

يقول العلوي : إن العربي الجاهلي عاش مغموساً بالحب و الوجدان و البكاء ، فأنتج لنا هذه الوفرة من المفردات الجميلة للحب ومتعلقاته . لقد كان الحب الجاهلي عذري بالجملة حسب العـلوي ، ثم أخذ الحب يتراجع لصالح " الجنس" بشـقيه الطبيعي  "السوي "  أوالمثلي  " الشاذ "، وذلك عقب بناء الحضارة العربية- الإسلامية ، باقتصادها المديني – النقودي، حيث جاءت ثورة المتصوّفة الفكرية طارحةً " الحب الصوفي ".

لماذا الحب الجاهلي عذرياً ، يجيب العلوي : لأنه مرهون بالترحال و البعاد، ولاحقاً  بسياسة " التجمير " أي إرسال المجنّدين إلى  جبهات القتال و تركهم لمصيرهم  (كما حصل في فترة لاحقة من الفتوحات الإسلامية )، ويقارن العلوي ذلك  بالحب الصيني فيقول إنه كان أوجع و أبكى من الحب الجاهلي و" أكثر وجداً " لانه يعني ترك الزوجة لمصيرها حيث لا يعود زوجها من القتال.

" الحب الصوفي " حسب العلوي هو "  الحب الإلهي " وهو يتداخل مع الحب الإنسي " الإنسـاني "والمتصوّف مشغول  بالجمال سواءً  كان مرئياً أم عقلياً،  والمقصود بالجمال المرئي هو جمال المرأة، جمال الطبيعة، أمّا الجمال العقلي أو العقلاني  فهو الجمال الإلهـي.

إن فن الحب في الفلسفة التاوية هو المرشد على السعادة والإنسجام بين الرجل والمرأة، عن طريق التناغم الجنسي، فبواسطته يمكن دفع الشرور، تلك التي تجد أصولها في فشل علاقة الرجل بالمرأة، ولاسيّما في تناغمها الجنسي، فالجنس هو جزء من نظام الطبيعة الذي بحاجة إلى  تنميته واختيار اللحظة المناسبة لفعل الحب.(25)

وإذا كانت نزعة التصوّف والتاوية قد إستوطنت العلوي واحتلّته إحتلالاً، فإنه إستحلاها وإستطيبها وعاش معها ليؤنسن الإله في ذاته المغتربة عن العالم.

 

 

 

المصادر والهوامش

(1)    يعود أصل هذا البحث إلى محاضرة ألقاها الباحث في  مؤتمر الحوار العربي- الصيني، الذي انعقد في بكين 20-24 أيلول (سبتمبر) 2010 بدعوة من المعهد الصيني للدراسات الدولية، بالتعاون مع منتدى الفكر العربي.

(2)    انظر : أوراق المؤتمر الرابع للحوار العربي- الصيني، بكين 20-24 أيلول (سبتمبر) 2010 حيث يميل الأكاديميون الصيني

 



exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©