EN | AR
بحر العلوم: السكون الرؤوم!
الأحد, حزيران 7, 2015
عبد الحسين شعبان

حين هاتفني السيّد علي الحكيم ليخبرني إن جدّه السيد بحر العلوم يرقد في مستشفى الجامعة الأمريكية وإنه سأل عني قلقت كثيراً لتقدّمه في السن وللعذابات التي اجترحها ، وقلت له سأزوره غداً بالتأكيد، ثم سألته هل ثمة أمر جدّي، فأبلغني أنه أجرى عملية في الركّبة (لتغيير المفصل)، وعندها شعرت بالإطمئنان. كان ذلك قبل ثلاث سنوات. وعندما خرج من المستشفى في اليوم التالي هرعت لزيارته ووجدت بيته عامراً، وخصوصاً في المرّة الثانية للزيارة، وما  إن رآني حتى هتف بصوت عال " وقد يجمع الله الشتيتين بعدما" فأكملت الشطر الثاني " يظّنان كل الظّن أن لا تلاقيا " وهو بيت شعر للشاعر قيس بن الملوّح (مجنون ليلى)، وكان قد مضى عدّة سنوات على آخر لقاء بيننا.

وعلى الفور دخلنا في حوار استكملته في الزيارة الثاني واستمعت إليه تفصيلاً عن الوضع السياسي وتداخلاته وعقده واستمرار انغلاق الآفاق، مصحوباً بغصّة ومرارة لا حدود لهما. وكنت أتمنّى حضور التكريم الذي أجري له في بيروت بمبادرة من مركز الإمام الحكيم، وفي الحديث عنه، إلاّ أنه تعذّر حضوري بسبب سفري ارتباطاً بموعد مسبق وقد اعتذرت منه، وكان أخي حيدر حاضراً.

حين سمعتُ خبر دخوله في غيبوبة قلتُ أتمنّى أن يخرج منها سالماً، فما زال أمامه الكثير، فمقام وقامة مثل السيد محمد بحر العلوم، الأديب، والمؤلف، والقاضي، والسياسي ورجل الدين، الذي اضطرّ للعيش في المنفى نحو ثلاثة عقود ونصف من الزمان، واكتسب تجربة غنيّة وخبرة غزيرة بحلوها ومرّها، وبنجاحاتها وإخفاقاتها، يجعل منه عامل جذب  ونقطة استقطاب، وليس مصدر تنافس أو تباعد، خصوصاً وقد ازدان بالحكمة، وهو الأمر الذي ينقص الكثير من الجماعات والشخصيات السياسية.

ولعلّها مفارقة أن يكون بحر العلوم المولود في النجف العام 1927 قد ولد في العام ذاته، الذي ولد فيه الشاعرحسين مردان والروائي غائب طعمه فرمان والفنان محمود صبري والشاعر مصطفى جمال الدين .

أول لقاء لي معه بعد الاحتلال في النجف في مطلع شهر تموز (يوليو) العام 2003 حين وصلتها لإلقاء محاضرة، قال لي " والله لقد عادت لي الحياة من جديد حين عدتُ إلى النجف" ووجدت صحته قد تحسّنت فعلاً. قال اليوم عشاءكم عندنا، قلت له سنضطّر للعودة إلى بغداد قبل بداية منع التجوال، ولكننا سنشرب الشاي عندك، وهذا ما حصل بحضور مجموعة كبيرة من الأقارب والأصدقاء، وكان حينها مُبتهجاً وفرحاً، ودعاني للمشاركة أمام الحاضرين متحدثاً بكلام قد أستحق بعضه وقد لا أستحق، وقلتُ له "وعين الرضا عن كل عيب كليلة..."، واعتذرت منه وغادرنا النجف، وكان أن وجدت جنوداً أمريكان يأكلون الكباب في أحد مطاعمها، فلم أستطع الاستمرار بوجودهم بالقرب منّا وهاجت حينها قرحتي القديمة، واضطررنا لترك المطعم.

عرفتُ بحر العلوم في النجف بحكم العلاقات العائلية والاجتماعية والجيرة، ومنذ فترة مبكّرةٍ، وخصوصاً مع بدايات وعي وانخراطي في العمل الوطني في إطار الحركة الشيوعية (أواخر الخمسينات)، لاحظت حيويته ونشاطه في إطار التيار الديني، وقد تابعت لاحقاً مسيرته الأدبية، ولاسيّما حين أصبح رئيساً للرابطة الأدبية، التي جمعت نخبة من الأدباء والكتاب، وإنْ كان غالبيتهم من منحدرات دينية، لكنها ضمّت أيضاً مجموعة من ميول أخرى، وبالتدريج بدأت أتعرّف على مدرسته الفكرية والاجتماعية وشخصيته المنفتحة، فهو سليل عائلة عريقة، وكان جدّه الأقدم السيد محمد مهدي بحر العلوم (1155-1212) ذا شهرة واسعة، حتى إن هناك من يقول إن  الفترة التي عاش بها السيد محمد مهدي  كان يطلق عليها "عصر السيد محمد مهدي بحر العلوم"،حيث كان في النجف وحدها آنذاك نحو 200 شاعر، في حين لم يزد نفوسها على 30 ألف نسمة، ويعود نسب الأسرة إلى الإمام الحسن، وانتقلت من الحجاز إلى العراق وسكنت البصرة والكوفة وهاجرت إلى إيران وعادت إلى العراق، فسكنت النجف وكربلاء.

وإذا كان الجواهري الكبير قد أخذ إسم عائلته من كتاب لجدّه الأقدم واكتسبت لقبها الحالي "الجواهري" نسبة إلى كتاب فقهي موسوعي، ألفّه أحد أجداد الأسرة وهو الشيخ محمد حسن النجفي، وأسماه "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام " ويضم44 مجلداً، لُقِّب بعده بـ"صاحب الجواهر"، ولُقبت أسرته بـ"آل الجواهري"، ومنه جاء لقب الجواهري، فإن بحر العلوم أخذ إسمه من تبحّرهم بالعلوم وانصرافهم إلى الدين والأدب والفقه، وبرز منهم أعلام كثيرون، مثلما  أخذنا إسم العائلة شعبان من جبل في اليمن ، وهو جبل النبي شعيب، وكان الأقدمون يذيلون اللقب بشعبان أو بني الأشعوب أو الشعبانيون الحميرون القحطانيون، إلى أن أطلق الشيخ عامر الشعبي، إسمه فأخذته العائلة، بدءًا من  العلاّمة يحيى سديد الدين حيث تم حذف الإسم الطويل : آل شعبان الحميري القحطاني، واكتفينا باسم آل شعبان وبالتدريج وللسهولة حذفنا الألف واللام.

كان من أبرز علاقات بحر العلوم الملازمة له في النجف الدكتور مصطفى جمال الدين الذي جاءها من لواء (محافظة) الناصرية للدراسة في الحوزة العلمية، وكان عمره 11 عاماً، إضافة إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المولود في النجف العام 1936 والذي عاش أكثر من ثلاثة عقود فيها، حتى بعد أن اضطرّ والده العودة إلى لبنان بقي فيها، والأمر كذلك بالنسبة للسيد محمد حسين فضل الله المولود في النجف العام 1935 والذي ترعرع وشبّ فيها، حتى بلغ عمره نحو 33 عاماً، فغادرها إلى لبنان بتكليف خاص.

وإذا كنتُ قد تعرّفت على السيد جمال الدين في العراق، فقد تعرّفت على الشيخ محمد مهدي شمس الدين في لندن واستكملت ذلك في بيروت. وقد أنستُ بفيض مشاعر رجال الدين الثلاثة بحر العلوم وجمال الدين وشمس الدين ، وكذلك بطيبة أنفاسهم ورقّة طباعهم وعمق تفكيرهم، وقدرتهم على التعامل مع مختلف الأوساط دون حساسيات.

وقد كتبتُ قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان كيف أن هذا الثلاثي المنفتح حاول تجديد التوجّهات الدينية والمناهج الدراسية للحوزة العلمية التقليدية، وهي محاولة مستحدثة في الخمسينيات والستينيات، وقد سبقتها محاولات كثيرة مثل ما أطلق على محاولة جنينية  في العقد الثاني من القرن العشرين وبالتحديد في العام ،1918 حين اتخذت عصبة شبابية من طلاّب الحوزة العلمية اسم " معقل الأحرار" في مدرسة الأخوند،والتي ضمّت سعيد كمال الدين وسعد صالح وعباس الخليلي والشاعر أحمد الصافي النجفي، وشارك معهم أحد الإيرانيين المدعو  " علي الدشتي" الذي غادر إلى إيران وأصبح له شأن كبير فيها.

أما الأربعة الآخرون فقد شاركوا في ثورة العشرين، واضطرّوا بعد فشلها إلى الهرب لحين تسوية أمورهم، باستثناء أحمد الصافي، الذي ظلّ في إيران نحو ثمان سنوات وترجم "رباعيات الخيام" واختار المنفى وطناً له، لاسيّما بعد انتقاله إلى لبنان وسوريا حتى أصابته شظية خلال الحرب الأهلية اللبنانية فعاد إلى بغداد ، ليتوفى فيها بعد عام تقريباً (العام 1977). ويمكن اعتبار أطروحات السيد أبو الحسن الاصبهاني المتوفي العام 1946 أحد المجدّدين من آيات الله التي كان لها حضور كبير لم ينل درجته أحد من قبله ومن بعده إذا استثنينا السيدعلي السيستاني لاعتبارات أخرى لم تكن السياسة بعيدة عنها، لكن الظروف التي عاش فيها السيد أبو الحسن كانت مختلفة عن الظروف الحالية، حيث كانت الأمية مستشرية والتخلّف مستفحلاً، وإنْ كان يقابله بدايات حركة تنوير محدودة، لكن الأوضاع العامة لم تكن لتستوعب الآراء المتقدمة للعلاّمة السيد أبو الحسن وقبله الشيخ حسين النائيني وكتابه الشهير " تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة".

وإذا أضفنا السيد محمد حسين فضل الله إلى الثلاثي بحر العلوم وجمال الدين وشمس الدين، فأعتقد إن الصورة ستكون أكثر وضوحاً، ليس في مجال الفقه والدراسة الحوزوية فحسب، بل اقبالهم على الأدب الحديث والشعر العمودي الكلاسيكي، وانفتاحهم على الشعر الحر،  كما كان يسمّى، وإنْ ظلّوا جميعهم يتمسّكون بالوزن والقافية، وحتى وإن وجدت شيئاً من قصائد التفعيلة في شعرهم، فإنها لم تكن "الغالب الشائع، بل النادر الضائع"، وقد تأثروا في قراءاتهم بالسيّاب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونزار قباني، وغيرهم من شعراء الحداثة، إضافة إلى تأثرهم بالجواهري رائد القصيدة الكلاسيكية الجديدة.

وفي تقريضي لغزليات مصطفى جمال الدين المنشورة في صحيفة العرب القطرية العدد 7428 تاريخ 13/10/2008 وقبل ذلك بسنوات في صحيفة الزمان اللندنية، وكذلك في كتابتي عن النجف وسسيولوجيتها، وخصوصاً في كتابي عن سعد صالح "الوسطية والفرصة الضائعة"، تناولت التأثير المبكّر لهذه العلاقة الثلاثية التي استدامت حتى مغادرتهم جميعاً دنيانا. ومن درجة تعلّقهم ببعض، فقد أطلقوا اسم " ابراهيم" على أبنائهم البكر وكلّهم يكنّون بأبي ابراهيم.

وقد بلور الارهاصات الأولى للتجديد أحد مجايلي الأربعة المتطلّعين إلى التغيير، وذلك على نحو منهجي ونقدي وفي إطار مشروع إسلامي شامل، ونعني به المفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر، الذي اختفى قسرياً في العام 1980، ومعه أخته بنت الهدى، وأعلن في وقت لاحق عن تصفيتهما خارج نطاق القانون والقضاء على يد النظام السابق، رغم أن هذا الإعلان لم يكن رسمياً.

III

في النجف التي كانت ترزح تحت ثقل التقاليد القاسية، كان هناك الكثير من الارهاصات والتمرّدات سواء على الجانب السياسي والفكري، أو الجانب الثقافي والاجتماعي، فالنجف كانت قد عقدت اتفاقاً مع التمرد، وظلّت مستعصية وترفض الاستكانة، فإضافة إلى اندلاع ثورتها العام 1918، وتنكيل المحتلين البريطانيين بها، فقد كانت معقلاً أساسياً للثورة في العام 1920، مثلما كان محطّة للفكر والثقافة والأدب والفقه والدراسة،  باعتبارها جامعة مضى عليها أكثر من ألف عام، أي منذ أن جاءها الإمام الطوسي هارباً في العام 448 هجرية والمتوفي في 460 هجرية، ويعتمر في داخلها الكثير من التناقضات الجديدة والقديمة، التقدمية والمحافظة، الدينية والعلمانية، الإيمانية اليقينية والتساؤلية العقلية، وهكذا، ولذلك ظلّت تعيش هذا التناقض بين " المجتمع المنغلق والفكر المنفتح"، كما أسماه جمال الدين في كتابه "الديوان"، واستعاد هذه الرؤية المقاربة السيد هاني فحصفي كتابه "ماضٍ لم يمضِ" حين خصّ النجف بخصوصيته مثّلت أحد وجوهها المعروفة.

وكنت في حوار مع السيد هاني فحص، إضافة على حوارات ولقاءات مع السيد بحر العلوم والسيد جمال الدين، قد أشرت إلى أن هناك وجه آخر للنجف، وقد تكون تجربتهم بعيدة عن ذلك، سواء على الصعيد الاجتماعي لكسر التزمت والدعوة للانفتاح وموجة التحرّر التي تلقفتها النجف بحماسة بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، إضافة إلى دور اليسار وحضوره الذي يمتدّ إلى عمق المؤسسة الدينية، سواءً رجال الدين أو "خدّام" في الروضة الحيدرية للإمام علي أو قرّاء المنابر الحسينية أو الشعراء الشعبيين، ناهيكم عن النساء النجفيات والجمال النجفي، والرأي العام الذي يترنّح بين البداوة أو على طرفها، حيث تقبع النجف كآخر معلم حضاري وتأتي بعد الصحراء، وبين المدنية حيث الانفتاح والاختلاط بأمم وحضارات وشعوب ولغات وسلالات أخرى.

كانت جامعة النجف تضم خليطاً متنوّعاً، حيث يجتمع الإيراني والأفغاني والباكستاني والهندي والتيبتي والتركي، إضافة إلى اللبناني والسوري والكويتي والسعودي والبحريني، وغيرهم، ولم يكن هناك من بدّ حين يضطرّ هؤلاء جميعهم الانصهار بالنجف وباللغة العربية، إذا أرادوا التقدّم في ميادين الدرس، وكم حملت النجف معها بسبب ذلك، من تناقضات سلالية ولغوية وتقاليد اجتماعية وأصول عرقية وحضارات مختلفة وثقافات متنوّعة، وإن ظلّ طابعها العروبي بما فيه العشائري إلى حدود معينة طاغياً؟ ولعلّ هذا التناقض والصراع الذي يعتمل داخل الشخصية النجفية، يعود  إلى الازدواجية في الشخصية العراقية التي كان أحسن من عبّر عنها علي الوردي في دراساته حول طبيعة المجتمع العراقي، خصوصاً تناوله الصراع بين البداوة والحضارة وما يتركه من تأثيرات، كما تحدث الشاعر الجواهري عنها في مذكراته  التي نشرها العام 1988 (جزءان) بعنوان "ذكرياتي".

وقد كتب الشيوعي المخضرم " صاحب جليل الحكيم" مذكراته تحت عنوان "النجف- الوجه الآخر" حيث أطلّ على كل تلك التناقضات، كما كتب عبد الحسين الرفيعي وهو من الشخصيات البعثية، كتاباً عن النجف وجغرافيتها وسسيولوجيتها وتناقضاتها، وهي إطلالة أخرى على الوجه الآخر للنجف، وكنت قد ألقيت محاضرة في الكويت بتحريض من الصديقين جهاد الزين وحامد حمود العجلان، ومحاضرة أخرى في الجامعة اليسوعية في بيروت، تعرّضت فيها إلى جوانب غير منظورة، وأخرى مسكوت عنها، وثالثة يتم تجنبها أو الحديث عنها بعمومية كبيرة، لتلك المدينة جامعة التناقضات أو ما أطلق عليه "جوار الأضداد"، إذ قد يكون ثمة في الأمر افتئاتاً على الحقيقة، حين تقول إن النجف مدينة دينية وتكتفي بذلك، فهي في الوقت نفسه لها جانب فكري وثقافي واجتماعي غير ديني، وقد لعبت التجارة دوراً آخر في تكوينها وفي شخصية المدينة وشخصيات النجفيين، بحكم النظر إلى الآخر والاختلاط والتعامل المباشر.

لقد شهدت النجف تطوّراً كبيراً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 على الرغم من المشاكل والتحدّيات الكثيرة التي واجهتها،فقد ارتفعت نسبة دراسة البنات ثلاث مرّات ما قبل الثورة، وكانت لجان محو الأمية  تنتشر في الأحياء والمناطق الشعبية، بل إن حقوق المرأة كانت مطروحة بتعمّق الوعي السياسي والحقوقي، ويجتمع حولها تيّار أخذ بالاتّساع، ولاسيّما بعد صدور قانون رقم 188 للأحوال الشخصية لعام 1959، على الرغم من قوة التيار المحافظ وانحياز أوساط سياسية قومية لصالحه، وهو ما يذكّرنا بالجواهري الكبير يوم تحدّى المحظورات، عندما رفضت الاتجاهات الدينية تأسيس مدرسة للبنات في النجف، فكتب قصيدته الشهيرة العام 1929 وهي بعنوان " الرجعيون" التي يقول في مطلعها  :

إذا لم تُقصِّرْ عُمرَها الصدَّمَاتُ 

ستَبقى طويلاً هذه الأزماتُ 

جريئونَ فيما يَدَّعونَ كُفاة 

إذا لم يَنَلْها مُصلحونَ بواسلٌ 

بانقاذِ أهليهِ همُ العَثَرات 

ومِنْ عَجَبٍ أن الذينَ تكفَّلوا 

كما اليومَ ظُلماً تُمنَعُ الفتيات

غداً يُمْنَعُ الفتيانَ أنْ يتعلَّموا

 

 

 

بحر العلوم: السكون الرؤوم!

2/4

عبد الحسين شعبان

ومن المفارقة أن التيار المعاكس أي "المحافظ"، الذي وقف في السابق ضد القانون رقم 188 وجدها فرصة لإلغائه على الرغم من التعديلات العديدة التي انتقصت منه منذ العام 1963، خصوصاً وأن هذا التيار يحظى بدعم الشارع في ظل الشحن الديني والتمترس الطائفي، وقد ارتفع رصيده بعد احتلال العراق،  ولعلّها مفارقة ثانية أن تقف النسوة في غالبيتهم ضد حقوقهن، حيث قدن تظاهرة بدعم من التيار الديني للمطالبة بإلغاء القانون رقم 188، وشارك فيها نحو 50 ألف إمرأة، في حين إن النسوة اللواتي كنّ قد تظاهرن مع إبقاء القانون الذي يكفل جزء من حقوق المرأة، لم يزد عددهن عن ألف إمرأة، مثلما هي مفارقة ثالثة أن لا يصادق بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق 13 أيار/مايو 2003- 28 حزيران/يونيو 2004 على قرار مجلس الحكم الانتقالي، بل ويدعو لإعادة مناقشة القرار والتصويت عليه مجدّداً، فلم يحرز هذه المرّة الأصوات المطلوبة، وهيمفارقة رابعة.

ومثلما ثارت ثائرة بعض المتدينين لتأسيس مدرسة للبنات، فقد علت أصواتهم حين شاركت عدداً من النسوة في تظاهرات العام 1956 ضد العدوان الإمبريالي الإسرائيلي على الشقيقة مصر، وانتصاراً لحقوقها، لكن الحملة ضد قانون الأحوال الشخصية كانت هي الأعنف على الإطلاق، مثلما لقي قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في 30 أيلول /سبتمبر العام 1958 معارضة شديدة وحادة. وكانت هاتان القضيتان، إضافة إلى قانون رقم 80 لعام 1961 بخصوص استعادة أراضي نحو 99.5% من "الشركات النفطية"  ومنعها من  التنقيب فيها، وكذلك المطالبة بالكويت العام 1961، إضافة إلى الهجوم على الحركة الكردية العام 1961، هي من الأسباب الرئيسية الإطاحة بالجمهورية الأولى (العام 1963 بانقلاب دموي كما هو معروف) وبتحالفات مباشرة أو غير مباشرة لم يكن بعيداً عنها القوى الخارجية.

V

وقد لعبت فتوى السيد محسن الحكيم والتي ملخّصها " الشيوعية كفر وإلحاد" وتحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي دورها في تهيئة أرضية وبيئة مناوئة لإجراءات الزعيم عبد الكريم قاسم، سواء بالتكامل مع آخرين مباشرة أو بشكل غير مباشر للإطاحة به. وقد أثارت الفتوى في حينها ضجة كبرى، سواءً على صعيد النجف بالدرجة الأساس أو المدن العراقية الأخرى (المراكز الحضرية)، حيث عزّزت الانقسامات الموجودة والحادّة بين الشيوعيين والقوميين، وأضافت إليها بُعداً دينياً ، أما في الريف والمناطق النائية فقد كان التأثير  على نحو أوسع بحكم دور العامل الديني، وهو ما لا يمكن قياسه في النجف وكربلاء والكاظمية على الرغم من إن الدين جزء من حياتها اليومية، إلاّ أن تأثير الفتوى كان ضعيفاً بحكم رسوخ أقدام الحركة اليسارية والتحرّرية.

وبقدر ما ألحقت الفتوى ضرراً بالحركة الشيوعية باستهدافها من جانب مرجعية دينية شيعية ومؤيدة من رجال دين سنّه، فإنها ألحقت في الوقت نفسه ضرراً بالتيار الديني (الإسلامي) الذي تعرّض لانتقادات شديدة، بل لاتهامات وشكوك، بحكم الصراع السياسي والآيديولوجي في حينها بين معسكرين الإشتراكية والرأسمالية، وانعكاساته وذيوله، سواءً بين الشيوعيين والبعثيين والقوميين، وبين حكم قاسم وعبد الناصر، واستكملت لوحة الصراع بإضافة التيار الديني، وبالطبع فقد كان صراعاً أعمى بشكل عام، وحتى الذين يُبصرون، كان عمى الألوان يصيبهم أحياناً، وهو ما عانى منه التيار الديني أيضاً، مثلما هي التيارات السياسية القومية والبعثية والشيوعية، التي دخلت في صراع محموم. والأمر لا يقتصر على العراق، بل كان هناك أنواع أخرى للصراع شهدتها مصر وسوريا وعموم بلدان المنطقة، بامتداداتها الدولية.

كنتُ قد سألت السيد بحر العلوم بعد انقطاع طويل نسبياً وخلال دعوته في منزل شقيقتي سلمى شعبان في الشام في أواسط الثمانينات، ما الذي استهدفوه من حملة مكافحة الشيوعية وتحريمها؟، وقد كان هو من أنشط المروّجين لها، حيث كان يعمل بمعيّة السيد محسن الحكيم " آية الله" العظمى كما أطلق عليه، وكما يقولالشيخ شمس الدين، أردنا كتابة رسالة وتذييلها فابتكرنا كلمة "العظمى" وهي ليست موجودة في المراتب الحوزوية، ولكن لإظهار هيبة ونفوذ "المرجعية"، وخصوصاً في مواجهتها للشيوعية.

ثمة مفارقة شديدة الغرابة، لكنها كثيرة الدلالة، لانحياز الكثير من أبناء المناطق المحرومة، وكذلك عدد غير قليل من العوائل الدينية وبينهم رجال دين وفي حضرة الإمام علي وقرّاء منابر وشعراء شعبيين، إلى جانب الحركة الشيوعية، بل إن فيهم شيوعيين منظّمين ونشطين، حتى إن مسؤول اللجنة المحلية في النجف آنذاك، كان السيد صاحب جليل الحكيم، وقد سألني بحر العلوم عنه، خصوصاً وكنت قد ذكرت  اسمه لأكثر من مرّة: أتقصد المناضل العتيق؟ قلت له نعم، وهو ما خاطب به الشيخ جعفر الدجيلي، صاحب جليل الحكيمعندما التقاه في منزل شقيقتي في الشام قائلاً: أنت قائد المظاهرات، وقدّر لنا أن نلتقيك بعد أربعة عقود من الزمان، فقد كُنتَ الحاضر " الغائب".

ومن أبرز العوائل الدينية التي كان نفوذ الحزب الشيوعي قوّياً فيها، وهي في حضرة الإمام علي، آل الرفيعي (وهم الكليداريةوآل شعبان (سرخدمة- أي رؤساء الخدم) وآل الحكيم وآل الخرسان وآل شريف وآل زوين وبعض من آل شمسه وآل كمونة، إضافة إلى عوائل كان حضور الحزب الشيوعي فيها نافذاً مثل آل الجواهري وآل الشبيبي وآل بحر العلوم وآل سميسم وآل زيردهام وآل الدجيلي وغيرها، وهذه كلّها عوائل دينية ضمّت الكثير من الشيوعيين، إضافة إلى أبناء عوائل أخرى غير دينية.

بعد أن اعتدل بحر العلوم  في جلسته وحرّك عمامته لتجلس فوق رأسه تماماً: قال: ماذا نعمل،  فقد سيطرتم على الشارع بالمقاومة الشعبية والمنظمات الجماهيرية؟ لقد قلنا حينها  وقع العراق تحت هيمنة الحزب الشيوعي وخلفه موسكو، ولن تقوم لنا قائمة، فلم نجد بدّاً لوقف المدّ الشيوعي "الأحمر" سوى دمغ الشيوعية بالكفر والإلحاد وتحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي، وأضاف بحر العلوم كانت الفتوى إحدى أسلحتنا الأساسية لوضع حدّ لنفوذكم، ولكنه لم يكن بإمكاننا المواجهة السياسية، سوى الاعتصام بحبل الدين وجعل الشيوعية مناقضة له، في حين اختار القوميون والبعثيون المواجهة العسكرية بالإعداد لانقلابات، اخترنا نحن المواجهة الفكرية.

وكان وقتها قد تبلور تنظيم حزب الدعوة تدريجياً بعد الثورة، وأضاف بحر العلوم شجّعنا السيد محمد باقر الصدر على محاججة الشيوعيين ونظرياتهم لإمكاناته الفكرية، فأصدر كتاب " فلسفتنا"، ثم كتاب " اقتصادنا"، وهو ما أخبرني به السيد طالب الرفاعي، حين إلتقيته في الولايات المتحدة العام 1992، ويعتبر أحد أبرز مؤسسي الحزب البارزين، وكان قد صلّى على جثمان شاه إيران محمد رضا بهلوي حين توفي في القاهرة، إذْ لم يجدوا رجل ديني شيعي يوافق على ذلك، ولأنه كان في القاهرة، فبادرت الرئاسة المصرية للاتصال به، وهذا ما حدث.

كان بحر العلوم جزءًا من التركيبة الأولى لحزب الدعوة، مثلما كان السيد محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم وآخرين، ولكن هؤلاء وأعني بهم ثلاثة من المؤسسين تخلّوا عن العمل الدعووي التنظيمي الحزبي بعد أن أبدت مرجعية الحكيم تحفظاتها حول العمل الحزبي وانخراط رجال الدين فيه، وقد أخبرني السيد بحر العلوم أنه امتثل لأوامر السيد محسن الحكيم ، وعندما غادر العراق لم ينتظم في أي إطار حزبي أيضاً، ونشط  كشخصية إسلامية مستقلة ومعتدلة، وقد استقطب أوساطاً غير قليلة، الأمر الذي أغاظ بعض القائمين على  حزب الدعوة في لندن، فأرسلوا له العام 1984 من يلفت نظره إلى أن بعض تصريحاته قد تُحسب على خط الدعوة، في حين كان هو يتصرّف من موقع مستقل، وأحياناً تتعارض مواقفه مع بعض القوى الإسلامية، سواءً في مواقف عامة أو في بعض الجزئيات.

وكنت قد سألته عن رأيه في الحرب العراقية- الإيرانية، وبقدر تنديده بنظام صدام حسين ودكتاتوريته ومسؤوليته، إلاّ أنه لم يكن متطابقاً مع الموقف الإيراني ولا بشأن البديل المطروح، وأخذت ملاحظاته تكبر إزاء السياسة الإيرانية منذ أواسط الثمانينات، وقد عبّر عن ذلك في مقابلة أجرتها معه جريدة البديل الإسلامي، في الثلث الأخير من العام 1988 في دمشق، على ما أتذكّر.

VI

لقد اضطّر بحر العلوم إلى مغادرة العراق في العام 1969 بعد اتّهام النظام السابق له، وكذلك للسيد مهدي الحكيم (نجل السيد محسن الحكيم)،  بالعمل لصالح جهات أجنبية مثيراً لغطاً حول ارتباطاتهم المشبوهة في إطار حملة إعلامية شرسة (قبيل وفاة السيد محسن الحكيم – في حزيران /يونيو 1970) وهي الطريقة التي كانت السلطة تستخدمها ضد خصومها، وقد قتل من آل الحكيم وآل بحر العلوم على أيدي النظام السابق وعلى مدى العقدين  الأخيرين (الثمانينات والتسعينات) من القرن الماضي عشرات من الشباب، وهي أرقام ليست عائمة أو مبالغ فيها، بل موثقة بالأسماء، ويعرف كاتب السطور العديد منهم زمالة وجيرة في فترة طفولته وفتوّته في النجف.

وقد اغتيل السيد مهدي الحكيم في الخرطوم (السودان) حين كان يحضر مؤتمراً إسلامياً العام 1988، على الرغم من تحذيرات وصلته بعدم السفر، لكنه أصرّ على الذهاب لشرح معاناة العراقيين بسبب الحرب والنظام.

بعد غزو الكويت من جانب القوات العراقية في 2 آب (أغسطس) العام 1990 بقرار فردي من  الرئيس السابق صدام حسين، وكنت قد وصلت إلى لندن، زرتُ السيد بحر العلوم في منزله، واتفقنا على لقاءات لاحقة، وكان أول لقاء اقترحه هو مع هاني الفكيكي في مكتبه. وقد استغربت عند حضوره بلا عمامة ويرتدي البنطلون ولاحظت أن شكله تغيّر كثيراً، وكنتُ أتصوره أطول من ذلك، ولاسيّما بالعمامة، لكنني وجدته قصيراً، ولم يكن جسمه كبيراً أو ممتلئاً كما كنت أعتقد، خصوصاً بالجبّة أو الصاية والعباءة، وهو الشكل الذي اعتدنا عليه، ومازحته قائلاً: لسنا فقط نحن عشّاق العمل السرّي ونقبع في السراديب، ها إنكم تفعلون مثلنا! وضحكنا، الفكيكي وبحر العلوم وأنا.

وقد تعمّقت علاقتنا كثيراً في لندن، مع الكثير من اللقاءات والاجتماعات والأسفار، فضلاً عن الزيارات الشخصية والترابطات العائلية مع  إبراهيم بحر العلوم ومحمد حسين بحر العلوم وعوائلهم  إضافة إلى كريمته في أمريكا وأحفاده مع إبن اختي بسّام.

وقبل مرض السيد جمال الدين، كنت قد دعوتهما للعشاء ومعهما بعض الأصدقاء في منزلي واستمعنا إلى قصائد غزل من جمال الدين وبحر العلوم، وكانت قد أقيمت أمسية جميلة لجمال الدين في الكوفة كاليري في لندن، وكان جلّ الحديث حول التحديّات الجديدة التي تواجه المعارضة العراقية، لاسيّما بانهيار صورة المؤتمر الوطني العراقي، واستقالة العديد من أعضائه القياديين ومنهم عبد الستار الدوري وطالب شبيب وانسحاب حزب الدعوة وهاني الفكيكي  والحزب الشيوعي وتعطّل اجتماعاته، إضافة إلى الانتقادات السياسية التي وجهت له.

وكان كاتب السطور قد كتب مذكرة احتجاجية بهذا الخصوص منذ وقت مبكّر (تموز/يوليو/1993) وأعقبها باستقالته بعد أربعة أشهر وأعلن موقفه من الحصار الدولي الجائر، والرهان على العنصر الخارجي وتأييد عمليات ضرب العراق بحجة تقليم أظافر النظام والارتجالية والفردية في عمله، مما جعل صورته تتدنّى أمام الجماهير الكردية، التي كان على تماسٍ بها، وكان السيد بحر العلوم لا يخالف هذه التوجّهات كثيراً على الرغم من أنه حاول ثنيي وثني الآخرين عن عزوفهم عن العمل، ولكنه كان يردّد إن استقالته في جيبه وإنه سيقدّمها حالما يجد الفرصة المناسبة.

وقد عادت معظم الأطراف التي انسحبت من المؤتمر وتعاونت معه بشكل مباشر أو غير مباشر عشية احتلال العراق، وقد كان الثلاثة المواظبين على الاستمرار والحضور هم: الحزبين الكرديين، وإن كان قد ضعف اهتمام الحزب الديمقراطي الكردستاني به، والمجلس الإسلامي الأعلى، في حين كانت حركة الوفاق (د. إياد علاوي) قد اختّطت نهجاً خاصاً بها ولم تعر أي اهتمام بتشكيلات المؤتمر أو نشاطه على الرغم من أنها استمرت في إطاره، سواء في مؤتمر ونزور العام 1999 أو مؤتمر واشنطن العام 2001 أو مؤتمر لندن العام 2002 الذي وضع اللمسات الأخيرة ما قبل غزو العراق.

 

 

 

بحر العلوم: السكون الرؤوم!

3/4

عبد الحسين شعبان

كان بحر العلوم يمثّل " الجامع" للمعارضة العراقية، ويحاول امتصاص التقاطعات والاختلافات، وكان هدفه الأول والأساس هو الإطاحة بالنظام السابق، وقد دعا أديب الجادر لإلقاء محاضرة في المركز ، وكان مما قاله الجادر أن نظام صدام حسين كان قوياً بمخابراته وأمواله وإعلامه وعلاقاته، أما المخابرات فقد ضعفت بسبب الحصار، وكذلك الأموال شحّت، والإعلام بدأ يتراجع ويفقد صدقيته، بل إن بعضه تحوّل من مؤيد إلى معارض له، كما هو جزء كبير من الإعلام العربي، وكذلك تلكّأت علاقاته العربية والعالمية، خصوصاً بعد غزو الكويت العام 1990 والحملة التي قادتها واشنطن ضده، وعملت على عزله.

لكن الجادر أضاف أن حليفاً جديداً قد جاء ليخدم صدام حسين وهو بعض أطراف  المعارضة العراقية، بسياستها الخاطئة، سواءً بتعويلها على العامل الخارجي، أو بمراهنتها على استمرار الحصار للاطاحة بصدام حسين، وكذلك موقفها من الحرب واستمرار العمليات العسكرية ضد العراق. ويعتبر الجادر إحدىالشخصيات الوازنة، وهو يتحدّر من عائلة موصلية معروفة، وكان عمله رئيساً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان قد أكسبه مراناً وخبرة جديدة، وتعزّزت مواقفه، سواءً من قضية الديمقراطية بشكل عام أو من المسألة الكردية بشكل خاص، علماً بأنه يعتبر إحدى الشخصيات القومية والناصرية المعروفة، ويحظى باحترام عربي، بل إن حتى بعض الأوساط من النظام السابق، كانت تتمنّى لو حصل التغيير وكانت شخصيات  مثل الجادر وفيما بعد ناجي طالب قد تصدّرت المشهد.

وكان بحر العلوم قد لقي لوماً من الذين لا يريدون سماع مثل هذه التقييمات، خصوصاً وأن الجادر أفاض في موضوع الحصار وتأثيراته والديون التي ستستحق على العراق وتكبّله، ناهيكم عن خطورة قرارات العقوبات الدولية، وهو ما عاد وكرّره في اجتماعات للهيئة الاستشارية التي كان أمينها العام مهدي الحافظ في فيينا ورئيسها الجادر، وقد اقتبست بعض الأرقام والتقديرات تلك في كتابي الموسوم " المحاكمة- المشهد المحذوف من دراما الخليج" ومن قام بطبعه محمد حسين بحر العلوم الذي كان ينشط مع ابراهيم بحر العلوم في دار زيدبلندن (العام 1992).

لقد تحوّل مركز آل البيت في لندن إلى خلية نحل لاجتماعات وخطط وبرامج وبيانات، مثلما كان بيت بحر العلوم مفتوحاً بكرم غير مبالغ فيه، ولكن بعطاء لا حدود له. وأتذكّر أن الاجتماع الذي كان مقرّراً أن تعقده المعارضة العراقية بعد مؤتمرها الأول في بيروت آذار /مارس 1991، تقرّر أن يُعقد في فيينا في نيسان/ أبريل/ 1992. ولكن إعلان لجنة العمل المشترك ومقرّها دمشق (ولنقل بعض أطرافها، حيث شاركت الأحزاب الكردية وهي جزء منها، بحماسة شديدة في المؤتمر) أربك الموقف، خصوصاً في الفترة القصيرة التي كان مقرّراً انعقاده، وتم تأجيل المؤتمر إلى حزيران/يونيو 1992. ، وتقرّرت لجنته السياسية في منزل بحر العلوم، التي ضمت بحر العلوم، وتحسين معلّه، وهاني الفكيكي، وليث كبّه، ولطيف رشيد وكاتب السطور الذي كلّف بكتابة التقرير والبرنامج السياسي للمؤتمر والمعارضة.

وكم حاول بحر العلوم مستفيداً إقناع الآخرين من علاقاته الواسعة من السوريين والإيرانيين وغيرهم ودعوتهم  للحضور والضغط عليهم ولكن دون جدوى، ولهذا فقد انعقد المؤتمر بمن حضر وتضمن التقرير والبرنامج السياسي الذي أعددته حينها أكثر من إشارة واضحة ومحدّدة بشأن حق تقرير المصير للشعب الكردي طبقاً للقانون الدولي، وهي أول وثيقة عراقية تصدر باسم المعارضة تأخذ بمبدأ حق تقرير المصير وهو ما يعتز به الكاتب، بل  هي جزء من إيمانه بحق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها، وموقفه هذا ليس افتئاتاً على أحد أو منّة أو هديّة، وإنّما هو إقرار بواقع أليم عانى منه الشعب الكردي، على الرغم من الدعوة للاتحاد الاختياري الأخوي، أما اختيار شكل التعبير عن حق تقرير المصير، فيمكن أن يبدأ من المساواة التامة في المواطنة واحترام حقوق الإنسان ومروراً بالحكم الذاتي أو الفيدرالية، أو حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً، فعندها يحدث الطلاق، وهو أبغض الحلال عند الله ، ولكنه بدلاً من أن يكون عدائياً وتناحرياً، يمكن أن يكون توافقياً وسلمياً، لاسيّما إذا أصبح لا مفرّ منه، وذلك بدلاً من الاحتراب والصراع والحروب العبثية.

والشيء بالشيء يُذكر كما يقال، فإن خمسة من المشاركين في المؤتمر بمن فيهم أعضاء في اللجنة التحضيرية شكّلوا وفداً للقاء بجلال الطالباني، وإقناعه بإلغاء هذه الفقرة، ولكل أسبابه بالطبع، وقبل أن يقابلوه إلتقوني، وإذا بأحدهم يقول لي لماذا "ورّطتنا" بهذه الورطة؟ والمقصود بذلك حق تقرير المصير، فقلتُ لهم إن هذا رأيي وقد دونته كما أجتهد، ويمكنكم مناقشته إذا رغبتم بالتوجّه إلى المؤتمر، بما فيه إلغاءه، ثم إنني أرسلت هذه المادة قبل نيسان/ابريل، وعدت وأرسلتها بعد طلبها ثانية يوم 27/أيار/مايو/1992، ولم أتلقّ أية ملاحظة أو اعتراض أو رأي مخالف لحين انعقاد المؤتمر، فالمادة لم تعد ملكي، بل ملك الاجتماع الذي سيقرر الرأي بشأنها.

قابل الوفد الطالباني في الفندق ذاته الذي انعقد فيه المؤتمر، وحاول إقناعهم بعد جدال طويل بوضع عبارة "دون الانفصال" بتذييل حق تقرير المصير، وبعدها طلبني مام جلال، وطلب مني عدم معارضة ذلك، لأنها تسوية توصّل إليها، وقلت له أن المسألة من الناحية القانونية غير منسجمة، فكيف يستقيم حق تقرير المصير مع التقيّيد، لاسيّما بعبارة، "دون الانفصال"، فرجاني أن لا أثير مثل هذه المسألة، لكن التناقض كان واضحاً، فقد ظل حق تقرير المصير مقيّداً في فقرتين، وكان مطلقاً في فقرتين أخريتين، سواءً في النص أو في البيان الختامي، ومن يرغب بمراجعة ذلك سيكتشف الأمر في كرّاس صدر عن مؤتمر فيينا في حينها (1992).

إن مثل هذا التشوّش والالتباس يعني فيما يعنيه أن المعارضات غالباً لا تقرأ، بل لا تهتم بما هو مكتوب، وتصبّ جلّ انشغالها بالاتفاقيات والصفقات السياسية من تحت الطاولة أو من فوقها، والأمر ينطبق على الموقف من الحصار الدولي والقرارات الدولية المجحفة، وخاصة القرار رقم 687 الصادر في 3 نيسان (ابريل) 1991 كما ورد في النص، إضافة إلى تحميل الولايات المتحدة ما حصل للعراق من خراب ودمار، بسبب تجاوز مسألة تحرير الكويت إلى تدمير العراق، وهو نص مكتوب في التقرير والبرنامج السياسي، الذي لم ينس النظام وجرائمه وآثامه، سواء في حلبجة والأنفال أو في جنوب العراق أو غربه وشماله، فالبطش كان عاماً وشاملاً، لكنّه ندّد بالحصار الدولي،  ودعا إلى تطبيق القرار 688 الصادر في 5 نيسان (ابريل) العام 1992، والقاضي بوقف القمع الذي تعرّضت له المنطقة الكردية واحترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين وهو القرار الوحيد، بل واليتيم والمنسي أو المهمل، كما أسماه الكاتب في حينها الذي ينتصر للشعب العراقي، خلافاً لجميع القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي، وهو ما كثّف البحث فيه في كتابيه " عاصفة على بلاد الشمس" الصادر في العام 1994 و"بانوراما حرب الخليج " الصادر في العام 1995.

بالمناسبة فقد أصبح بعض من المعترضين على حق تقرير المصير من أشد الداعمين والمؤيدين للحركة الكردية وليس لحقوق الشعب الكردي، فالحركة الكردية مثلها مثل غيرها تصيب وتخطأ، أمّا حقوق الشعوب فهي الأساس وهي الباقية، والمسألة لا تتعلق بتطوّر المواقف بقدر تعلّقها بتطوّر المصالح، وهو ما أصبح ملحوظاً ومصدراً للتندّر بعد احتلال العراق، لاسيّما حين أصبح إقليم كردستان سلطة فعلية ومقرِّرة لدى بغداد فاستدار كثيرون مثلما بالغ آخرون في الترويج والدعاية، وتلك إحدى مساوئ العمل الوطني العراقي.

وللأمانة أقول إن بحر العلوم لم يكن من هؤلاء، الذين تحفّظوا على حق تقرير المصير أو ما ورد في التقرير، وكان يردّد باستمرار بخصوص القضية الكردية أنه يتمنّى أن يكون لنا وطناً واحداً، وأن يعيش في عراق دون تمييز، وهو ما كان مؤمناً به، أما إذا استحال الأمر فعلينا أن نعيد حساباتنا، ولكن دون حروب أو قتال، بل بالتفاهم، فقد كان ملتزماً بحقوق الأكراد، ليس من باب المجاملة أو المصلحة أو لنفوذ لاحق، كما يتملّق كثيرون، ويتزلّفون لهذا أو ذاك، بل كان ذلك عن قناعة وإيمان حقيقيين في سرّه وفي علنه.

ولعلّها مناسبة أن نذكر إن الحركة الدينية (الإسلامية) بشقيها لم يكن لها موقفاً واضحاً ومحدّداً إزاء القضية الكردية حتى العام 1992، ويعتبر بيان حزب الدعوة (برنامجه) العام 1992، أول وثيقة سياسية تؤيد " حقوق أخواننا الأكراد بالحكم الذاتي".

وقد دعاني السيد بحر العلوم لإلقاء محاضرة عن القضية الكردية في مركز آل البيت في لندن 1992 وذلك بعد محاضرتي في الكوفة كاليري حول مشكلة المهجرين العراقيين في ضوء القانون الدولي.

وكان بحر العلوم دائم الحضور معنا في أنشطة المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وأذكر منها حين  لبّى دعوتنا بكل اعتزاز كما عبّر عن ذلك، لحضور الملتقى الفكري الأول الذي نظّمته المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أتشرف برئاستها والذي كان عنوان "الحوار العربي- الكردي" خريف العام 1992، وساعدنا في الإعداد له سامي شورش (عن الجانب الكردي) ونوقش فيه لأول مرة موضوع الفيدرالية وحق تقرير المصير، إضافة إلى الحكم الذاتي .

وحضره 25 كردياً نستذكر منهم محسن دزئي وإبراهيم أحمد ولطيف رشيد وهوشيار زيباري ومحمود عثمان وعادل مراد وسامي شورش ومحمد صدّيق ومحمد هماوندي وعمر شيخ موس وآخرين، و25 عربياً، بينهم من عرب العراق: بحر العلوم وعامر عبدالله وهاني الفكيكي وحسن الجلبي ومحمد عبد الجبار الشبوط، ومن الشخصيات الإعلامية التي شاركت وكتبت لاحقاً عبد الوهاب بدرخان وكاميران قرداغي وحازم صاغية، إضافة إلى حضور مصري وبحريني وسوري وسعودي وفلسطيني ومغربي وتونسي وليبي وآخرين.

كما حضر بحر العلوم الملتقى الخاص بالثقافة والمثقفين والملتقى الموسوم بالتسامح والنخب العربية والملتقى المخصص للقدس والملتقى الخاص بالحصار الدولي، وغيرها من الفعاليات.

وجّهت لي دعوة لحضور مؤتمر في ديربون بالقرب ديترويت (الولايات المتحدة) لحضور مؤتمر بمناسبة ذكرىيوم الغدير، وأجبتُ محدثي عبر التلفون وهو السيد صادق بحر العلوم زوج ابنة بحر العلوم السيّدة خمائل وصديقة شقيقتي سلمى، بأنه ليس لي علاقة بمثل هذا الموضوع وهناك كثيرون هم أقرب إلى هذا الموضوع. وقلتُ له أيعقل إنني أتحدث عن ذلك؟ قال لي المهم نحن نريدك أن تحضر لنلتقي بك، وبعد يومين عاد واتّصل بي وطلب مني كيف يرسل لي بطاقة الدعوة للحصول على الفيزا ثم إرسال التذكرة، فأجبته إذا وافقتم ستكون محاضرتي عن " الإمام علي وفلسفة الحق والحرية".

وهذا ما حصل وكان من الحاضرين على ما أتذكّر إضافة إلى السيد بحر العلوم ومحمد عبد الجبار، فهمي هويدي والسيد الأمين، ومحمد التيجاني السماوي ، التونسي الذي ألّف كتاباً بعنوان " ثم اهتديت"، وكنت قد قرأته نظراً للدعاية الكبيرة التي صاحبته، ولم أجد فيه شيئاً مميّزاً، إذا استبعدنا الجانب الدعائي للشيعة الخاص ببلدان المغرب العربي، حين يعلن أحد علماء السنّة بالتحوّل إلى المذهب الشيعي، ويسوق لذلك مبرّرات لم أرها كافية لمثل هذا التحوّل، ولكن للمسألة بُعدٌ سياسي، وخصوصاً بعد الثورة الإيرانية العام 1979 ومحاولة تمدّدها أو تصديرها بطرق مختلفة، وكنتُ قد أعربت عن رأيي هذا للسيد بحر العلوم، علماً بأن الكتاب حتى ذلك الحين طبع 29 مرّة وبمئات الآلاف من النسخ من جانب  الإيرانيين.

عند انتهائي من محاضرتي، جاءني التيجاني السماوي بزيّه التونسي الواسع الجميل (البرنص كما يسمّى)، وسـألني هل أنت قيادي في حزب الدعوة؟ فأجبته كّلا، ثم قال من أي حزب إسلامي أنت؟ قلت لست حزبياً، وقال لي أنت إسلامي مستقل إذاً ، قلت له لستُ إسلامياً، قال : كيف؟ قلت له: الإسلاميون يريدون إقامة حكم إسلامي وأنا ضد ذلك، فقال لي إذاً من أين جاءت ثقافتك الإسلامية؟ قلت له لقد رضعنا ذلك مع الحليب. قال لي إذاً أنت تدعو إلى حكم غير إسلامي فماذا تسمّيه؟  قلت له، حكم ديمقراطي دستوري تعدّدي وفسّرت له ذلك، ثم صدمته بقولي إنني علماني واشتراكي النزعة وماركسي التوجّه، فنادى على بحر العلوم وسأله أحقاً ما يقول؟ فضحك بحر العلوم قائلاً هذه هي التعددية، ولكن لا تنسى أن عائلة فلان هي من العوائل الدينية في الروضة الحيدرية للإمام علي.

وظلّ التيجاني السماوي مستغرباً، وتحاورنا أكثر من مرّة، فاكتشفت أن معلوماته، ولاسيّما بخصوص التجديد في الفقه الشيعي وإطلاعه على آراء وأفكار بعض المفكّرين الشيعة محدوداً،  ومن يقرأ علي شريعتي، وخصوصاً كتابه " التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي" وكتاب " العودة إلى الذات"، يدرك القيمة الحقيقية لتجديد الفكر الإسلامي، الذي لا يعتبر ترفاً فكرياً، بل حاجة ضرورية لتخليصه من الكثير من القيود والرتابة والروتينية، وذلك بحد ذاته يمثل تحدّياً للمؤسسة الدينية التقليدية والتيارات المحافظة وخطراً عليها، الأمر الذي دفع برجال السافاك إلى اغتيال شريعتي في لندن العام 1977، ولم يبلغ عمره آنذاك سوى 43 عاماً، ويمكننا أن نتصوّر لو واصل شريعتي عطاءه، خصوصاً وقد اكتملت أدواته البحثية وبلغ مرحلة النضج والامتلاء.

وقد يكون التيجاني ملمّاً أكثر من غيره ببعض جوانب الفقه الشيعي بشكلانيته المدرسية، بدراسة السطوح وثم بحث الخارج والرسالة العملية، وبعض من الكتب المعروفة للشيخ الكيلني والشيخ الصدوق والشيخ المفيد (وهي كتب تأسيسية في الفقه الشيعي) لكنّني أعتقد أن ذلك ليس كافياً لإقناع آخرين على التحوّل أو الاختيار، الاّ إذا كان الأمر لاعتبارات سياسية أو فردية لكنها تبقى محدودة، بل ونادرة. لقد ظلّت صورة التيجاني السماوي عالقة بذهني على الرغم من غيابه عن المسرح منذ أواسط التسعينيات، ولم أسمع عنه، وقد سألت عنه في تونس، فلم يكن قد ترك تأثيراً يُذكر على المستوى الفكري والسياسي أو الاجتماعي، سوى أنه كان إحدى إفرازات المذهبية والصراع المحموم في المنطقة، وقد أبلغني الأخ الكاتب والإعلامي خالد شوكات(الناطق باسم مجلس النواب التونسي) أن التيجاني ما زال حيّاً يرزق ويعتبر داعية للمذهب ا

 



exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©