EN | AR
النظام الإقليمي العربي ومعادلات القوة العالمية
الأربعاء, مايو 20, 2015
د. عبدالحسين شعبان

في مؤتمره السنوي ناقش مركز الخليج للدراسات، لهذا العام عنواناً مثيراً ارتباطاً بالتطورات الإقليمية والعالمية، وكان العنوان الموسوم " النظام الإقليمي العربي ومعادلات القوة العالمية" قد أثار جدلاً واسعاً وعميقاً ، معرفياً وثقافياً، سياسياً وقانونياً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وهو الأمر الذي استوجب بحثه من جانب عدد من المفكرين والباحثين والممارسين العرب بهدف استشراف رؤية قد تنفع صاحب القرار، وقد تفيد في بلورة رأي عام ضاغط لإصلاح أسس هذا النظام.

والأمر يحتاج إلى التوقف قليلاً لدراسة الماضي بهدف استخلاص الدروس والعِبَر الضرورية، فالتاريخ حسب ابن خلدون " ديوان العِبَر"، مثلما يتطلّب دراسة الحاضر بكل عناصر ضعفه وخوره، إضافة إلى عناصر قوته ومنعته، تلك التي لو أحسن استخدامها واستثمارها، فإن المستقبل سيكون إلى جانبها، خصوصاً بمواجهة التحدّيات الراهنة من خلال عمل مشترك وتعاون فعّال.

وإذا كان النظام الإقليمي الحالي قد تشكّل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945، فإن هناك الكثير من عوامل الضعف قد اعتورته والكثير من عوامل القوة قد صاحبته، سلباً أو إيجاباً، في ظل صراع دولي آيديولوجي حاد واستنفار تناحري إلغائي، اتّسم به نظام القطبية الثنائية، من المنافسة في الميادين المختلفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، إلى سباق التسلح، في ظل حرب باردة محمومة.

وقد أحدثت تلك المجابهة الطويلة الأمد منذ انتهاء التحالف ضد الفاشية بعد الحرب وحتى أواخر الثمانينيات، نوعاً من التوازن المعروف بنظام القطبية الثنائية، الذي سرعان ما انهار بانهيار الكتلة الاشتراكية، التي لم يكن بإمكانها الصمود إلى ما لا نهاية في ظل التخصيصات الهائلة لتطوير وتكديس الأسلحة، حيث وصلت في العام 1983 في ظل برنامج حرب النجوم إلى أكثر من تريليوني دولار، إضافة إلى وصول التنمية المستدامة إلى طريق مسدود، لاسيّما بتراجع معدّلات النمو على نحو كبير، وحدوث اختناقات اقتصادية وأزمات اجتماعية وردود فعل شعبية متعلّقة بشحّ الحريات.

وقد انعكست التغييرات التي شهدها النظام الدولي على النظام الإقليمي وأدّت إلى ضعضعة بعض أركانه وقدرته على اتخاذ قرارات مستقلة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وإذا كانت بعض الأنظمة الإقليمية قد راكمت خبرة طويلة وتعززت قدرات دولها من خلال المصالح المشتركة، فإن بعضها الآخر، ومنها النظام الإقليمي العربي قد تراجع على نحو ملحوظ وشديد. وبدلاً من مواكبته التطور الدولي، فإنه تراجع قياساً بنظرائه الأنظمة الإقليمية، سواء في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو آسيا أو غيرها، وهو الأمر الذي كان محطّ نقاش حار ومسؤول من جانب نخب عربية متنوّعة ومن أقطار عربية شتى.

وإذا كان الطموح من قيام النظام الإقليمي العربي يهدف إلى تحقيق المزيد من التنسيق والتعاون والاتحاد بين أقطاره وكجزء من نظام دولي "فرعي"، فإنه لم يتمكّن من ذلك، بل لم يستطع توفير الحد الأدنى لامتصاص التوترات والعمل على حلّ النزاعات والاختلافات بين دوله ولتخفيف مستويات تأثيرات القوة، على حساب تأثيرات أخرى، في حين ظهرت إمكانات عالمية لإقليمية جديدة، باعتبارها المعادل النوعي لمواجهات التفرّد والاستئثار في ميدان القوة العالمية الآحادية القطبية، وهكذا تم بناء شبكة علاقات إقليمية قادرة على الحركة بشكل أكثر سهولة ويُسراً في ظل ما هو قائم من نظام دولي.

إن الإقليمية الجديدة التي هي نموذج للتفلّت من الاستتباع للقوة العالمية التي تريد الاستحكام بالعلاقات الدولية، أصبحت أكثر تأثيراً من السابق، بل هي الأكثر جدوى في بناء نظم إقليمية تتجاوز ما هو قائم بما يحقق لها مصالحها وتطلعاتها في ظل النظام الدولي السائد، بتعزيز المصالح المشتركة لشعوبها وبناء قوة إقليمية اقتصادية تستطيع التأثير على الساحة الدولية.

لقد نشأ النظام الإقليمي العربي متمثّلاً بجامعة الدول العربية في 22 مارس/آذار 1945، أي قبل قيام الأمم المتحدة بثلاثة أشهر، حيث أبرم ميثاقها في 26 يونيو/ حزيران/ 1945، وكانت في حينها نمطاً من التنظيم يتلاءم مع متطلبات تلك المرحلة ودولها السبعة المؤسسة وهي: المملكة العربية السعودية، ومصر والعراق وسوريا ولبنان واليمن والأردن.

لكن هذا النظام وبعد مرور سبعة عقود من الزمان لم يعد ملائماً بشكله القديم وهو لا يلبّي متطلّبات العصر وتحدّياته والعلاقة بين دوله، حيث خلا النظام من أية إشارة إلى حقوق الإنسان التي وردت 7 مرات في ميثاق الأمم المتحدة، كما أنه شدّد على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ( على نحو قاطع) الأمر الذي يثير أسئلة حارة، حول عدد من التدخلات التي وقعت خلال تاريخ جامعة الدول العربية  وانعكاساتها على مستوى العلاقات بين دولها، وخلال ربع القرن ونيّف الماضي تصدّع مفهوم السيادة التقليدي لحساب التدخل الإنساني، حتى وإن استخدم هذا الأخير بطريقة انتقائية وتم توظيفها سياسياً من جانب القوى الكبرى.

لقد أصبحت  قاعدة حقوق الإنسان، ذات سمة علوية، وهي إحدى القواعد الأساسية في مبادئ القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي، وقد تضمنتها العديد من الاتفاقيات الدولية، وقد حصل مثل هذا التطور على المستوى الكوني في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي العام 1975 والتي جاءت تطبيقاته بعد انتهاء عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، حين اعتبرت مسألة حقوق الإنسان أساسية في إطار التطور الكوني، فقد تشكلت أنظمة إقليمية  عربية فرعية ، أهمها مجلس التعاون الخليجي.

وعلى الرغم من وجود أرضية مشتركة: لغة ودين وتاريخ وتوابعهما بامتداداتها الجغرافية، ناهيكم عن المصالح المشتركة والمصير المشترك، إلاّ أن النظام الإقليمي العربي لم يتطوّر وبدا كأنه ينتمي إلى الماضي، في حين تقدّمت دولاً لا تجمعها جوامع مثل اللغة والدين والتاريخ، بل إنها كانت متحاربة ومتقاتلة، أكثر وحدة وانسجاماً، من النظام الإقليمي العربي، بفعل المنهج العقلاني لدولها وتقديمها المصالح المشتركة على حساب عناصر الاختلاف وعدم الانسجام.

وقاد اتحاد من أجل انتاج الفحم الحجري العام 1950 أوروبا إلى اتحاد بين مجموعة من دولها، حيث لحقت بها دول أخرى بلغت أكثر من 27 دولة فيها عشرات اللغات والثقافات، إضافة إلى التاريخ المختلف، لكن ما يربطها هو المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نظر بالنظام الإقليمي العربي ككل، بأهداف ووسائل الوصول إليها بما فيها نظام التصويت في جامعة الدول العربية وإلغاء نظام الفيتو لكل دولة،، أي التخلّص من مبدأ الاجماع الذي نادراً ما يتحقق، ويؤدي إلى تعطيل قرارات الجامعة ، حتى بخصوص بعض المسائل الإجرامية  البسيطة، كما يحتاج الأمر إلى إعطاء الجهاز التنفيذي أهمية أكبر وصلاحيات أوسع، لتنفيذ القرارات المتخذة، ومنح العاملين في هذا الجهاز صفة الموظف الدولي، بما يمتلك من حرّية في الحركة واتخاذ القرار والعمل على تنفيذه.

إن الحوار بخصوص النظام الإقليمي العربي ومعادلات القوة العالمية، مسألة ضرورية وحيوية، بل وملحّة على صعيد الأنظمة الحكومية، إضافة إلى المجتمع المدني العربي بأشكاله المختلفة، والهدف من هذا الحوار يتلخّص بالبحث عن السبل الكفيلة لإصلاح النظام الإقليمي العربي، وجعله أكثر فاعلية في مواجهات التحدّيات الداخلية والخارجية، وتجسير الفجوة بين الدول العربية من خلال المبادرات التي تقود إلى إصلاح النظام القائم استجابة لروح العصر، وذلك عبر إبراز دور القواعد الناظمة والفاعلين الأساسيين، سواء على مستوى النظام أو فرعياته، إضافة على امتداداته العالمية، في إطار النظام الإقليمي، بحيث يغدو هذا الأخير، أكثر منعة في المستقبل، خصوصاً إذا استكملت بتفعيل الدور الشعبي، للمجتمع المدني.

 

 

 

صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 20/5/2015

 

 

 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©