أثار قرار الرئيس دونالد ترامب بشأن منع مواطني 7 بلدان إسلامية (6 منها عربية هي العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال) إضافة إلى إيران من دخول الولايات المتحدة (لمدة ثلاث أشهر) وتعليق قبول اللاجئين (لأربعة أشهر) واستثناء طالبي اللّجوء السوريين إلى أجل غير مسمّى، موجة عارمة من ردود الأفعال المختلفة، بين مؤيّديه الذين يعتبرون ذلك من مظاهر السيادة، لا سيّما إذا كان الأمر يتعلّق بالأمن القومي، وهو حق للرئيس بموجب الدستور، وبين معارضيه الذين يعتبرون مثل هذا الإجراء مخالفاً للمبادىء القانونية والدستورية العامة التي تقوم على المساواة وعدم التمييز، وبالتالي فهي تتعارض مع الدستور.
والأكثر من ذلك، فإن مثل هذا القرار أثار اختلافاً حادّاً بين ما هو سياسي وبين ما هو قانوني، فالقضاء الذي حكم بعدم جواز اتخاذ مثل هذا الإجراء، أيّدته محكمة الاستئناف، الأمر الذي دفع ترامب إلى التعليق عليه فور صدوره بأنه سيواجهه بالمحكمة، والمقصود بذلك "المحكمة الدستورية العليا"، وطعن به باعتباره "مسيّساً"، وأياً كانت الأسباب، فإن ما هو سياسي أصبح في خلاف مع ما هو قانوني وقضائي، وهناك خلاف بين ما هو حق دستوري للرئيس وفي بعض قراراته التي تتعارض مع الدستور نفسه، فضلاً عن تعارضها مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وحين نقض القضاء "القرار الرئاسي"، كانت تبريراته قانونية بأن طعن البيت الأبيض فيه (وهو طعن سياسي) مرفوض حسب ما ورد على لسان القضاة الثلاثة في محكمة الاستئناف، لأن الإدارة الأمريكية لم تبرهن على أن استمرار تعليق هذا القرار (الرئاسي) قد يؤدي إلى انتهاكات خطرة لأمن الولايات المتحدة.
وإذا كان الاتجاه المؤيد لقرار الرئيس الأمريكي يستند إلى مبادىء السيادة، فإن هذه الأخيرة لم تعد مطلقة كما كانت في القانون الدولي التقليدي، بل أصبحت مقيّدة في القانون الدولي المعاصر، وازدادت تقييداً مع مرور الأيام بحكم المعاهدات والاتفاقيات التي تنضم إليها الدولة والمنظمات الإقليمية والدولية التي تنتمي إليها، والتي يتم بموجبها التنازل عن جزء من سيادتها.
وحين أصبحت قاعدة حقوق الإنسان، قاعدة مستقلّة وآمرة، أي ملزمة في القانون الدولي أي Jus Cogens، فإن السيادة ازدادت تقييداً ولم يعد بإمكان دولة ما اتخاذ قرارات انفرادية حتى وإن كانت داخلية، إذا كانت تتعارض جوهرياً وصميمياً مع سموّ قواعد حقوق الإنسان، وذلك منذ إقرار مؤتمر هلسنكي لها في العام 1975 وهو المؤتمر الخاص بالتعاون والأمن الأوروبي الذي شاركت فيه 33 دولة أوروبية، إضافة إلى أمريكا وكندا، وما صدر عنه يعتبر بمثابة اتفاقية شارعة أي منشأة لقواعد قانونية جديدة أو مثبتة لها.
ومن جهة أخرى فالقرار الرئاسي يعتبر انتقاصاً من مبادىء المساواة، فاستثناء مواطنين بلد ما يندرج في إطار التمييز والعنصرية والدعوة إلى الكراهية والتحريض والعنف، وهو مخالف لروح المادتين (19 و20) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966، وهو في الوقت نفسه مخالف لقرارات "مؤتمر ديربن" حول العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب لعام 2001. والأكثر من ذلك، فإن القرار الرئاسي يتعارض مع مبادىء الدستور الأمريكي نفسه، وهو من أعرق الدساتير العالمية، خصوصاً لمخالفته لمبادىء المساواة والتمييز ضد شعوب بكاملها على أساس الدين والعرق.
وتختلف الرؤية السياسية عن الرؤية القانونية، ليس فقط بالتبرير، بل بالقواعد التي تحكمهما، وحين يبرّر ترامب إجراءه الأكثر رمزية بالأمن القومي، يقول القضاة إن قرارهم يتساوق مع "المصلحة العامة"، وهنا يظهر الافتراق والتعارض ما بين السياسة والقانون، علماً بأن قرار المحكمة الدستورية العليا سيكون حاسماً، وينبغي الامتثال له.
لقد كنّا نعتقد وما زلنا أن الولايات المتحدة هي بلد القانون والمؤسسات، وأن تهمة التسييس للقضاء وعدم النزاهة أو الحيادية أو المهنية، هي تُهم جاهزة يتم تلبيسها للعالم الثالث ولمعارضي سياسة واشنطن كلّما اقتضت الحاجة لذلك، وهو ما لمسناه خلال فترة الحصار على العراق، وفيما بعد تبرير احتلاله باتهامه امتلاك أسلحة دمار شامل، وإذا بنا اليوم أمام ظاهرة جديدة، وهي أن الرئيس الأمريكي نفسه، وهو أعلى درجة في سلّم الهرم، يتّهم القضاء الأمريكي وقراراته بالتسييس.
لقد تعلّمنا خلال دراستنا القانونية، أن القانون حسب مونتسكيو مثل الموت لا يستثني أحداً، وهو ما حاولنا أن ندرّسه لطلابنا، مشيدين بالمؤسسات التي تم بناؤها في الدول المتقدّمة والتي سبقتنا في ميدان حكم القانون ومنها الولايات المتحدة، بما فيها مؤسسات القضاء التي هي الأكثر احتراماً، لكن ما هو جديد أن الرئيس الأمريكي هو من يطعن بقراراتها ويتّهمها بالتسييس. وإذا كان مثل هذا الأمر يتعلّق بمسألة ذات اختصاص داخلي أمريكي، وإن كانت لها انعكاساتها الدولية، فما بالك حين يتعلّق الأمر بشرعنة الاستيطان من جانب "إسرائيل"، فسيكون من حقنا وحق جميع المدافعين عن حقوق الإنسان التساؤل من منظور العدالة والحقوق: من سيقاضي المرتكبين؟ ومن لديه مثل هذه القدرة على ملاحقتهم حتى لو تمت إدانتهم؟ ومن سينصف الضحايا؟
نُشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 15/2/2017
بعنوان: "قرارات ترامب ومبادىء الدستور الأمريكي"