لا مناص أمام العرب من اعتماد الثقافة -بمعناها الشامل- بداية الحركة والانطلاق في أيّ مشروع لترميم الواقع العربي أو إصلاحه أو إعادة بنائه، ولا مفرّ من أن تكون هذه البداية سليمة ومحكمةً بأعلى درجة من الدقّة ووفق رؤى ثقافية واضحة وجلّية وبعيدة المدى، لأنّ كُلّ ما بُني على غير رؤية ثقافية مآله التداعي والاضمحلال آجلاً أو عاجلاً. ولستُ أُبالغ البتّة إذا قلْتُ إنّ السرَّ في إخفاق مشاريع التعاون العربيّ في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والإعلامية والعلمية وسواها، هو غياب الرؤية والمنطق الثقافي السليم، وغياب التخطيط الواعي الذي يراعي الأبعاد الثقافية والفكرية لهذه المشاريع، ويراعي الاعتبارات الثقافية لواقع الأمّة وآمالها وتطلّعاتها.
لا بدّ إذًا من أن نعمل أوّلاً على ضبط مشروعنا الثقافي العربيّ، وأن نُحكم مداخله ومخارجه ومساراته، ولا ندع فيه مجالاً لخلل أو ثغرةٍ تعيق تنفيذه أو تفسد نجاح أهدافه. ولئن كانت هذه المهمّة عسيرة، بسبب الطبيعة الجدلية للثقافة ذاتها، وبسبب الطبيعة الجدلية والعبثية التي تطبع حوارات هذه الأمّة ومنازعاتها، فإنّها من جهة أخرى مهمّة يسيرةٌ بعض الشيء، لكثرة ما يجمع بين أقطار هذه الأمّة وأبنائها من جوامع لا تكاد تنحصر كثرة وتنوّعًا، وما تختصّ به من قيم إنسانية أجمع العالم العربيّ بأسره وكثير من منصفي الأمم الأخرى على رفعتها وسموّها وضرورة العمل على إحيائها وتمثّلها وتبنّيها.
إننا في هذه الأيّام تحديدًا في أمسّ الحاجة إلى أن يكون لنا مشروعنا الثقافي الذي يضبط إيقاع الحياة في محيطنا العربيّ، ويضبط إيقاع علاقاتنا البينيّة والخارجيّة التي لا تحتكم إلى ضابط محدّد أو تنسيق عربيّ واضح.
إنّ الإجماع على ميثاق ثقافي عربي سيكون – في حال ظهوره- مفتاح النجاح لسائر المواثيق العربيّة اللاحقة، وبنجاح هذا المشروع تبدأ الخطوات الأولى الواثقة نحو استعادة حُلُم التعاون العربيّ المشترك في مختلف المجالات، بل حُلُم الوحدة، الذي باتت المناداة به خجولة، ومن دون هذا الميثاق تبقى محاولات التنسيق والتعاون والتضامن مهدّدة بالتعثّر والإخفاق، ويبقى حلم الأمّة بالوحدة مهدّدًا بالتلاشي.
ولا مفرّ من الإشارة إلى أنّ جهود المؤسسات الثقافية العربيّة في هذا الاتجاه لم تولِ أهميّة كافية ومناسبة لموضوع الميثاق الثقافي العربيّ، ولم تفلح جهود المنظمة العربيّة للثقافة والتربية والعلوم (أليكسو) في دعم الثقافة العربيّة وغاياتها القومية بعيدة المدى على النحو المنشود، لأنّ نجاح هذه الجهود مرهون بسياسة جامعة الدول العربيّة وبمستوى الدعم الذي تقدّمه الدول العربيّة الأعضاء في هذه المنظمة، وهو دعمٌ يقترب من حدود اللادعم.
كما أن الاجتماعات الدورية لوزراء الثقافة العرب لم تنجح في تحقيق أي منجزات ثقافية عربيّة ذات شأن حتّى الآن، على الرغم من صدق نواياها، كما أنّ وزارات الثقافة في الدول العربيّة تعمل كلُّ واحدةٍ منها على إبراز الخصوصيّة الثقافيّة للبلد الذي تنتمي إليه، بعيدًا عن الجوامع الثقافية مع الدول العربيّة الأخرى. كما أن مجامع اللغة العربيّة تتعامل مع اللغة العربيّة وكأنّ لكلّ بلدٍ عربيّ لغته العربيّة الخاصّة به، وهو أمرٌ يبعث على الاستهجان، لكون اللغة العربيّة واحدة، وهي أهم جامع مشترك لأبناء الأمّة.
ومن هنا فإنّه لا بدّ من توجيه الأنظار إلى ضرورة تضافر هذه المؤسسات جميعها وتوحيد جهودها في صياغة ميثاق ثقافي عربي، كي تكون الجهود الثقافية التي تنهض بها هذه المؤسسات مثمرة وذات جدوى ومنسجمة مع هذ الميثاق ومع أهداف الأمّة وتطلّعاتها.
وعندما نأخذ في وضع الميثاق الثقافي العربيّ الذي سوف نسند إليه ظهورنا ونحن نستشرف النهضة والتقدّم والوحدة والنجاح ومواكبة التطوّر الإنساني في مختلف المجالات، لا بدّ من أن ننطلق من الموروث الثقافي المشترك، والقيم القوميّة والإنسانية للأمّة، وخلاصة التشريعات العالمية والشرائع السماوية السمحة.
إنّ اللغة العربيّة هي أهمّ جامع مشترك بين العرب في سائر أقطارهم، وهي جديرة وفق هذا الميثاق بالاحترام والإعلاء من شأنها تقديرًا لدورها الكبير في جمع الأمّة، والمقصود باحترامها هنا أن نتحدث بها في جميع المناسبات الرسميّة داخل بلداننا العربيّة، كالمناسبات العلمية والثقافية والتعليمية والسياسية والإعلامية والدينية والقانونية، كما تفعل سائر الدول بلغاتها، أمّا استخدام اللغات الأخرى فإنه جائز إذا كان جمهور الحاضرين كله من المتحدثين بلغة غير العربيّة، كما هو الحال في الأنشطة السياحية، ويمكن استخدام لغات أخرى إلى جانبها في حالات خاصّة يقتضيها الموقف.
أمّا خارج الوطن العربي، فإن احترام اللغة العربيّة يقتضي استخدامها إذا استخدم كلّ واحد من الحاضرين لغته الخاصّة به، ولا تجوز المجاملة في هذه الحالة باستخدام لغة أخرى. ولا بدّ من استخدام اللغة العربيّة في التدريس في المدارس والجامعات، إلاّ في حالات خاصّة جدًّا يتطلبها الموقف.
وممّا يتصل بذلك أيضًا ضرورة التنسيق بين الدول العربيّة في نشر اللغة العربيّة خارج حدود الوطن العربي، وتعزيز انتشارها في الدول الإسلامية التي تحتاج إلى اللغة العربيّة، وفي الدول التي يوجد تأثير و اضح للغة العربيّة في لغاتها، كالتركية والفارسيّة والهندية وغيرها، وما أكثرها. ولنجاح ذلك لا بدّ من تأسيس جهة عربيّة تشترك فيها جميع الدول العربيّة للإشراف على توفير الظروف والشروط اللازمة والمناسبة لتحقيق هذا الهدف السامي، لأنّ نشر اللغة العربيّة خارج حدود الوطن العربي يمثّل تعزيزًا لمكانة العرب لدى تلك الشعوب.
ولا بدّ إلى جانب ذلك من الحرص على تشجيع استخدام العربيّة الفصيحة عند الناشئة وفي مختلف مجالات الحياة لأنها عامل وحدة وتفاهم وتواصل بين أبناء الأمّة، وعاملٌ من عوامل تخفيف التأزّم بين الأفراد وبين الجماعات من خلال قدرة المجُيد لها على اختيار التعبير الذي يحقق له التواصل السليم والمنشود مع الآخرين.
إنّ وضع قانونٍ لحماية اللغة العربيّة تجتمع عليه الدول العربيّة ينبغي أن يكون موضوعًا مركزيًا من موضوعات الميثاق الثقافي العربيّ.
ومن العناصر الأساسية لأي ميثاق ثقافي عربي احترام التنوع الثقافي داخل المجتمع العربيّ، وداخل كل مجتمع من مجتمعات الدول العربيّة على حدة، وتقبّل هذا التنوع والاختلاف، والعمل على الاستفادة منه في تطوير الأمّة والنهوض بدولها، لا أن يكون هذا التنوّع مدخلاً لإثارة الصراعات والفتن بين العناصر المكوّنة لكل مجتمع من مجتمعات الدول العربيّة، إذ لا بدّ من الاعتراف بأنه لا يد لأحد في اختيار انتمائه القومي أو العرقي أو العشائري أو الديني أو الطائفي أو المذهبي. ومن هذا المنطلق فإنه لا يجوز الحكم على أي شخص أو تقييمه من منطلق انتمائه الديني أو العرقي أو المذهبي أو غير ذلك، بل من منطلق كفاياته وتأهيله وإنجازاته وما أسهم به في خدمة المصالح الوطنية، كما لا يجوز إقصاء أي شخص أو فئة انطلاقًا من اعتبارات عرقية أو دينية أو مذهبية أو سواها، ما لم ينطو الاتجاه الفكري أو المعتقدي لهذا الشخص أو تلك الفئة على أفكار عدوانية أو إفسادية نحو المجتمع الذي تعيش فيه أو نحو فئةٍ من فئات المجتمع. ولا بدّ كذلك من احترام الحقوق الثقافية لأصحاب الثقافات الخاصّة التي تتألف منها مكوّنات المجتمع.
وكذلك لا بدّ من جعل الحوار الخيار الأوّل والأخير للتعبير عن الاختلاف في الأفكار، ولمحاولات الإقناع، إذ إنّ من المستحيل إقناع أيّ شخصٍ برأيٍ أو فكر أو معتقد بغير الحوار أو بالقوّة والترهيب مثلاً. كما أنّه لا يمكن استخدام القوّة والإلزام لجعل شخصٍ محبًّا لأمرٍ من الأمور أو شخصٍ من الأشخاص أو معتقد من المعتقدات أو فئة من الفئات، فمثل هذه الأمور لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالإقناع والتفاهم والحوار فقط. إنّ أيّ محاولة لتغيير عقيدة أيّ إنسان بالقوة سوف تزيده تشبثًا بها وتمسكًا بالدفاع عنها.
وممّا ينبغي لأيّ مشروع للميثاق الثقافي العربيّ مراعاته ضرورة المحافظة على تراث الأمّة المادّي وغير المادّي، والدعوة إلى ضرورة إيلاء عناية خاصّة بالآثار التاريخية التي تنتشر على امتداد الأرض العربيّة أو في باطنها، وعدم الإضرار بهذه الآثار أو الإساءة إليها بأيّ صورة من الصور، وعدم التقصير في التنقيب عنها وترميمها وصيانتها، والمحافظة على نظافة الأماكن التي توجد فيها، لأنّها تمثّل شواهد على تاريخ هذه الأرض والأمّة، وعلى هويّة المكان والإنسان، وعلى مقدار إسهام هذه الأمّة في الحضارة الإنسانية ومقدار الإنجاز الحضاري والإنساني العربي على هذه الأرض.
ومن أهمّ ما ينبغي الاهتمام به في هذا السياق تجريم المساس بالآثار أو تدميرها أو الاعتداء عليها خلال الحروب، واعتبار محاولات إزالتها وهدمها استهدافًا للهويّة القوميّة وجريمة لا تقلّ خطورة عن جرائم التطهير العرقي وجرائم الإبادة، ولذلك فإنها تعدّ من أخطر جرائم الحروب لأنها تستهدف ما يشهد على هويّة ساكني الأرض. وقد كان من أخطر ما خلّفته الحروب الأهلية والاعتداءات الخارجيّة على سوريا والعراق وسواها إزالة كثير من المواقع الأثرية واستهدافها وتدميرها. ولا بدّ كذلك من التعاون في مجال استرداد الآثار والمخطوطات العربيّة التي سرقت خلال عهود الاستعمار. كما لا بدّ من اشتمال القوانين العربيّة على موادّ تحرّم البحث عن الدفائن والكنوز بعيدًا عن رقابة الجهات الرسميّة المختصّة.
وممّا يتصل بذلك ضرورة جمع المخطوطات العربيّة وفهرستها والتعريف بها وصيانتها وترميمها والتنقيب عنها وتشجيع الباحثين وأساتذة الجامعات وطلبة الدراسات العليا على تحقيقها ودراستها ونشرها، وإبراز قيمتها الفكرية والعلمية، لأنّ هذه المخطوطات هي المستودع الذي يضمّ خلاصة النتاج الفكري العربي عبر عصوره المختلفة، وإنّ إهمالها أو التفريط بها يعدّ تفريطًا برافدٍ مهمّ وأساسيّ من روافد الهويّة العربيّة وثقافتها ولغتها وقيمها وفكرها.
إنّ المقدّسات الدينية الإسلامية والمسيحية أماكن لا يجوز التسامح بالاعتداء عليها أو الإساءة إليها بأي صورة من الصور وتحت أي ذريعة من الذرائع، لما لها من رمزيّة ومكانة بالغة في نفوس المنتمين إليها، أوّلاً، ولما لكثير منها من أهمية تاريخية وتراثية. ولذلك فإنّ أي ميثاق ثقافي عربي يجب أن يتضمن ضرورة تجنب المساس بأي من هذه الأماكن وتجريم العبث أو الإضرار بالمساجد والكنائس وسائر دور العبادة، واستبعادها من دائرة الحروب سواءً أكانت أهلية أم خارجية، حتّى لو لجأ إليها مسلّحون أو قتلة أو خارجون عن القانون، فإنه يمكن في مثل هذه الحالة استخدام وسائل أخرى لمحاصرتهم والقبض عليهم دون تعريض هذه المقدّسات لأي نوع من المساس بحرمتها وقداستها. فالأماكن المقدّسة هي عوامل لتوحيد الناس والجمع بين قلوبهم.
أمّا التراث غير المادّي، فينبغي أن يتضمن الميثاق بنودًا تشترط جمعه وتوثيقه وصيانته وتسجيله وتدوينه، ثمّ دراسته وتحليله، مع التركيز على إبراز العناصر المشتركة فيه بين الأقطار العربيّة، كالملابس والأدوات المختلفة المستخدمة في مختلف مجالات الحياة، والأطعمة والأمثال والتراث الشفوي كالأساطير والأغاني، وكذلك بعض العادات والتقاليد في مناسبات الزواج والمآتم والحصاد والحجّ والإنجاب، والتخرّج، وغير ذلك.
وكذلك تشجيع المحافظة على القيم المشتركة وتوظيفها في خدمة مصالح الأمّة، لأنّ ذلك كلّه يعدّ من الأمور التي تعزّز التقارب والتواصل والتفاهم بين العرب حيثما كانوا، وتعمّق من ترابطهم، لأنها تمثّل مكوّنًا مهمًّا من مكوّنات الهويّة الثقافية العربيّة.
وكذلك لا بدّ من مراعاة قيم العدل والحريّة والمساواة وحقوق الإنسان، والمحافظة على البيئة، باعتبارها قيمًا إنسانية عامّة، لا تنهض المجتمعات أو تتطور في غيابها.
ومن أهمّ ما ينبغي أن يشتمل عليه الميثاق الثقافي العربيّ أن يُعطي خيار الحوار أولوية على سائر الخيارات الأخرى لدى مواجهة أي مشكلة داخل قطر عربي واحد أو بين أي قطرين عربيّين، وأن يعطى هذا الحوار فرصته الكافية تمامًا ووقته الكافي وبما لا يقلّ بأيّ حال عن فرصة الحوار التي تمنحها الدول العربيّة للدول غير العربيّة التي تنشأ بينها وبين العرب نزاعات أو حروب أو خلافات، فما يمكن أن يخسره العرب نتيجة طول أمد الحوار فيما بينهم هو قطعًا أقلّ ضررًا مما يخسرونه نتيجة اللجوء للعنف و الحلول الدموية لأي نزاع، لأنّ الحلول الدموية تترك آثارًا وجراحًا لا تندمل بمرور الزمن بل قد ينتج عنها مضاعفات خطيرة متزايدة مع الزمن، والأمثلة على ذلك في واقعنا العربيّ صارخة وشاهدة وماثلة بين أعيننا.
وممّا ينبغي مراعاته لدى إعداد الميثاق الثقافي العربي ضرورة العمل على زيادة معرفة مواطني أيّ بلد عربيّ بالدول العربيّة الأخرى مثل حدودها الجغرافية وعواصمها ومدنها الرئيسية ومساحاتها وأعداد سكانها ومواقعها وأبرز معالمها السياحية وآثارها وخصائها المناخية، وأبرز أحداثها التاريخية ومعالمها الأثرية، وبعض العادات في اللباس والزينة والطعام، وأن تشجّع الدول العربيّة السياحة البينية خدمة لمصالحها السياحية والاقتصادية وتعزيزًا لتثقيف المواطن العربيّ بأقطار الوطن العربي. وفي هذا السياق ينبغي أن يشتمل الميثاق الثقافي العربيّ على وضع منهاج مدرسي مشترك يدرّس في جميع الأقطار العربيّة لنشر هذه المعرفة المشتركة وتوسيع قاعدتها، مع العمل على أن يبرز هذا المنهاج الملامح المشتركة بين هذه الأقطار.
وفي هذا الإطار فإنّ ممّا يخدم مصالح الأمّة تسليط الضوء على غناها بالأماكن السياحية التاريخيـة والحديثـة عظيمـة الأهميــة والقيمة، وتشجيع السياحة البينية بين الأقطار العربيّة وتسهيلها بدلاً من هدر مليارات الأموال خارج الوطن العربي في نشاطات سياحية.
وينبغي لهذا الميثاق كذلك أن يشتمل على ضرورة أن تضع الأمّة خططًا للمحافظة على مبدعيها ومتفوّقيها في مختلف المجالات، وأن ترعى المبدعين، والمتميزين من العلماء والأدباء والفنانين والمفكرين والمثقفين، وذلك من خلال تقدير هؤلاء العلماء والمبدعين ورعايتهم وتوفير البيئة والظروف الملائمة لتنمية إبداعاتهم وتطويرها، ومن خلال التشبث بهم، وتوفير الأسباب اللازمة لعودة مَنْ هاجر منهم ولمنع هجرة العقول العربيّة للخارج، إلاّ ما كان سفرًا مؤقتًا للاستفادة من علوم الآخرين وتوطينها في أقطار الوطن العربي. ومن هذا المنطلق لا بدّ من هذا الميثاق أن يتبنى الدعوة إلى تعليم التفكير وإيلاء العقل والاحتكام إليه في مشاريعنا النهضوية والمستقبلية شأنًا أكبر.
كذلك لا بد من دعم دور المؤسسات الثقافية لجامعة الدول العربيّة، وتفعيل الأدوات الثقافية والإعلاء من شأن الثقافة وتفعيل دورها في الحياة العربيّة والاعتراف بهذا الدور. ولا بدّ كذلك أن يشتمل تعريف المثقف على كلّ من يتبنى مواقف تسهم في تقدم الأمّة ونهضتها وحقن دماء أبنائها والمحافظة على كرامتهم ومصالحهم.
ومن الضروري كذلك أن يشتمل الميثاق المقترح على خطّة لمكافحة الأميّة في الوطن العربي بجميع أشكالها القرائية والكتابية والمعرفية وأميّة الحاسوب. وأن تشتمل على موادّ تشجّع التواصل مع ثقافات الأمم الأخرى في الشرق والغرب والشمال والجنوب، للاستفادة من تلك الثقافات ومنجزاتها الحضارية، وهذا يتطلّب عناية خاصّة بحركة الترجمة من العربيّة وإليها، كما يتطلب عناية بحركة التأليف لإبراز المنتج الحضاري العربيّ وتقديمه للعالم، إذ يمكن من خلال نشر هذا المنتج والتعريف به عالميًا إزالة كثير من الأوهام والأضاليل التي تشوب صورة العرب في أذهان أبناء الأمم الأخرى. وهذا بدوره يتطلب وضع رؤية جديدة عصرية لتطوير الخطاب العربيّ السياسي والإعلامي والثقافي والفكري بما ينسجم مع معطيات العصر والتقدم العلمي والحضاري العالمي.
وما دامت الغاية من هذا الميثاق توفير قاعدة ثقافية متينة تستند إليها مشاريع النهوض الحضاري العربيّ، من خلال العمل العربيّ المشترك، وتحقيق المصالح العربيّة، فإنّ من الضروريّ أن يتبنى الميثاق دعوة الدول العربيّة إلى مراعاة هذه المصالح المشتركة في ترتيب أولوياتها فتجعل مصالح الدول العربيّة ومصالح الدول التي تجمعنا بها عناصر ثقافية مشتركة، متقدمةً على مصالح الدول الأخرى مهما كانت درجة الصداقة التي تربطنا بتلك الدول عملاً بقاعدة «الأقربون أولى بالمعروف».كما ينبغي للميثاق أن يتبنى اعتبار أيّ إجراء يخدم هذه المصالح القوميّة المشتركة إجراء يلبّي أهداف الأمّة وتطلّعاتها، ويرى في أيّ إجراء يتعارض مع الأهداف بعيدة المدى لهذا الميثاق خروجًا على إجماع الأمّة. وممّا يتّصل بذلك ضرورة مراعاة أولويات المصالح القوميّة، فلا يجوز التغاضي عن أيّ عدوّ أو محتلّ خارجيّ يقوم بالاعتداء على أيّ من أراضي الوطن العربيّ أو احتلالها، كما لا يجوز التحالف معه تحت أي ذريعة قبل أن ينهي عدوانه أو احتلاله، ولا سيّما إذا اجتمعت جريمة الاحتلال مع جريمة المساس بالأماكن المقدسة للأمةّ، وهو ما تشهده القدس الشريف وأرض فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلي. ولا يجوز للثقافة العربيّة بأيّ حال أن تنسلخ عن الإجماع المشترك، بل إنّ من أهمّ أدوارها أن تعمل على تعزيز ما هو مشترك بين أبناء الأمّة والإعلاء من شأنه، وأن تنأى بنفسها عن كلّ ما يعزّز انقسامات الأمّة ويضعف مناعتها.
إنّ الميثاق الثقافي العربيّ الذي نصبو إليه هو الذي ينحاز إلى الدم العربيّ ويتبنى الدعوة إلى حقنه وتحريمه، وينحاز إلى الكرامةالعربيّة ويدعو إلى صيانتها من كلّ مكروه، وينحاز إلى التراث العربيّ الماديّ والمعنويّ ويسعى إلى رعايته والحفاظ عليه، وينحاز إلىالعقل ولا يتسامح في تهميش دوره، وينحاز إلى الحلم العربيّ بالوحدة دون أن يتخلى عنه تحت أيّ ذريعة أو في أيّ ظرف، وينحازإلى قيم الحريّة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ويدعو إلى مراعاتها بكل الوسائل المتاحة، وينحاز إلى التطوّر والنهضة ومواكبةالحضارة العصرية بكل أبعادها الماديّة والمعنويّة.
وأخيرًا، فإنني أقترح تشكيل فريق قانوني رفيع المستوى من مختلف الدول العربيّة يتولّى صياغة هذا الميثاق، وأن يشارك في هذاالفريق ممثّلون عن الدول العربيّة وعن الأحزاب والمنظمات وكبار المثقفين في الوطن العربي.
أستاذ الأدب العربيّ في الجامعة الأردنيّة؛ وعضو مجلس التعليم العالي؛ وعضو منتدى الفكر العربي؛ ووزير الثقافة (سابقًا)/الأردنّ.