أكاديمي ومفكّر عربي
حين تبنّى عدد من النواب الكوريين "عشية العام الجديد 2017" مذكرة لإقالة الرئيسة بارك غيون، بسبب فضيحة فساد واسعة، ونقل صلاحياتها إلى رئيس الوزراء، امتثلت الرئيسة، فالأمر كان وفقاً للدستور، وطبقاً لحكم القانون. استعدتُ بهذه المناسبة وأنا أقلِّب أوراقي كيف أوقف الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي العام 2014، في قضية استغلال نفوذ؟ مثلما استذكرتُ فضيحة ووترغيت بحق الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التي هزّت العالم، كما يُقال، حيث كان يتنصّت على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس، ووجّهت التّهمة إليه تمهيداً لمحاكمته وعزله تحت عنوان "إعاقة العدالة"، ومخالفة القانون.
وكانت تهمة الرئيس الفرنسي جاك شيراك تبديد المال العام، وتهم فساد أخرى، وذلك خلال رئاسته بلدية باريس، وقد تم الحكم عليه بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ. أما رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، فقد اتهم بالتهرّب من العدالة، إضافة إلى فضائح مالية وأخلاقية، حيث اضطرّ لتقديم استقالته وصدر الحكم عليه بالسجن سبع سنوات. هكذا في الدولة القانونية يُستدعى العديد من المسؤولين للتحقيق، أو يقالون طبقاً لأحكام الدستور والقانون، فلا فرق بين حاكم ومحكوم إزاء القانون، فما هو حكم القانون؟
يُعتبر "حكم القانون"، أو "سيادة القانون" أصلاً من الأصول الدستورية، بمعنى أن السلطات العامة في أي دولة لا يمكنها ممارسة سلطتها إلاّ وفقاً للقانون، وفي الأغلب الأعم والشائع السائد وفقاً لقوانين مكتوبة صادرة طبقاً لإجراءات دستورية متفق عليها في الدستور، والهدف من ذلك هو تحقيق الحماية ضدّ التعسف، والأحكام الجائرة. ويعني حكم القانون وجود قوانين وتشريعات ناظمة، وعلى أساسها تُقام المؤسسات، وينعقد القضاء وتتم من خلاله حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام والأمن العام.
وفي الدول الديمقراطية يكون المسؤول الأول في الدولة ابتداءً من رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، وانتهاءً بشرطي، أو جابي الضرائب، يتحمّلون المسؤولية ذاتها عن الأعمال التي يقومون بها، مثل أي مواطن آخر، الأمر الذي يصبح تنفيذ القانون ملزماً للجميع، لمن وضعه، ولمن يقوم بتنفيذه والجميع مطالبون بالتقيد به، ولذلك نلاحظ حالات كثيرة تتم فيها متابعة المسؤولين في الدولة بصفتهم الشخصية، ويمثل كثيرون منهم أمام القضاء لمحاسبتهم واتخاذ عقوبات بحقهم.
ويرتبط مفهوم حكم القانون وسيادة أحكامه بعدد من المفاهيم منها:
1 – عدم سن قوانين بأثر رجعي "لا عقوبة ولا جريمة إلاّ بنص".
2 – افتراض البراءة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".
3 – العقوبة المضاعفة "لا يعاقب الإنسان إلّا مرة واحدة عن الجريمة المعينة التي ارتكبها" (مع السماح بإعادة المحاكمة في حال توفّر أدلّة جديدة).
4 – مبدأ المساواة القانونية (أي عدم التمييز بسبب الدين، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الأصل الاجتماعي).
وحسب مونتيسكيو: القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً.
5 – إخبار المتهم بالجريمة التي يتهم بها.
6 – أن تقوم بحبسه جهة قضائية.
ومبدأ حكم القانون لا يتعرّض إلى عدالة القانون ذاته، ولكن يُعنى بالمحافظة على النظام القانوني من خلال الامتثال لحكم القانون، وعكسه ستكون الفوضى، ولكن مبدأ حكم القانون يعتبر شرطاً من شروط الدولة الديمقراطية، وكان أرسطو أول من تحدث عن هذا المبدأ باعتباره من القانون الطبيعي.
وبرغم الاختلاف الفكري والسياسي بين الأنظمة السياسية، فإنها جميعها تتحدث عن مبدأ حكم القانون، وفي الدول الديمقراطية فإنه يشكّل وسيلة لفرض قيود على الحكومة، ومنعها من التغوّل على المواطن، أو الاستبداد في الحكم، أو التعسف في إصدار الأحكام، في حين تستخدمه الدول الشمولية والدكتاتورية للتغوّل على المواطن بزعم حماية المجتمع.
وتميل الدول الشمولية إلى استخدام مبدأ حكم القانون بما يضمن إخضاع الدولة لمن بيدهم السلطة، وأحياناً تبتلع السلطة الدولة، وتخضعها لصالحها، وتوظفها لمصلحتها بزعم الدفاع عن مصالح الأمة، أو الشعب، أو الكادحين، أو مصلحة الثورة، أو تحرير الأراضي، أو إعلاء شأن الإسلام، أو غير ذلك من ذرائع هدفها الزوغان من حكم القانون واستخدامه أداة لإملاء الإرادة على الآخرين.
وقد سارت جميع الأنظمة الشمولية في هذا الاتجاه دولياً: الفاشية، والدول الاشتراكية السابقة، وإقليمياً دول ما نسميه بـ"التحرر الوطني" التي حكمت باسم القومية أو الدين أو مصالح الكادحين، مبررة ذلك بالصراع مع العدوّ والأخطار الخارجية ومهمات تثوير المجتمع وتغييره عبر الثورة على القوانين ومن خلالها، يتم تجاوز الواقع. وأياً كانت المبرّرات، فإن النتيجة كانت لغير صالح حكم القانون الذي لن تتقدّم الدول وتتحقق التنمية بمعناها الشامل والمستدام إلاّ من خلاله، وحتى لو كان القانون متخلفاً فينبغي العمل على تغييره بالوسائل السياسية والدستورية ومن خلال التراكم والتطوّر، مثلما يمكن أن يلعب الرأي العام وقواه الحيّة دوراً في ذلك.
وقد أكّدت جميع التجارب العالمية والإقليمية والعربية، أن التغييرات الانقلابية التي حصلت ويتم فيها التجاوز على القانون سرعان ما عادت وانتكست، مؤخِّرة التطوّر الطبيعي التدريجي.
وفي الدول الديمقراطية: الشعب مصدر السلطات (بواسطة ممثليه)، في حين أن هدف القانون في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية هو "مصلحة الشعب التي تمر عبر مصلحة الحاكم". أما في الأنظمة الديمقراطية، فإن طاعة القانون، ليست في جميع الأحوال ناجمة عن الخوف من العقوبة، بل وفي الكثير من الأحيان من خلال القناعة، وعبر التراكم الحقوقي والثقافة الحقوقية والديمقراطية تنشأ ثقافة عامة في المجتمع تشجّع على احترام القانون، وتزدري منتهكيه بما فيه المخالفات البسيطة لأنظمة المرور مثلاً، أو لاختراق الدّور عند الانتظار أمام دائرة أو مؤسسة أو في مطار، في حين أن الطاعة في الأنظمة الشمولية تأتي عن طريق الخوف، أو الردع، أو العقوبات الغليظة واللاقانونية أحياناً، أي أنها طاعة إجبارية وإكراهية في الأغلب.
"القانون فوق الجميع" في الأنظمة الديمقراطية، وفي نقيضها الأنظمة الشمولية "الحاكم فوق القانون"، والحاكم هو الذي يسنّ القانون من خلال قرارات فوقية، بحجة "حكم الضرورة" و"الأوضاع الاستثنائية" وأحياناً تبرير "المحظورات" بحجّة "الضرورات"، أو من خلال مجالس تشريعية مزيفة أو مزوّرة أو بانتخابات شكلية، وحتى لو تضمّنت شكلياً على القيم الديمقراطية، فإنها تعطّل تحت ذرائع مختلفة، في حين أن القيم الديمقراطية يتم تعميقها برقابة الرأي العام في الأنظمة الديمقراطية (إعلام، مؤسسات مجتمع مدني، منظمات حقوقية..).
وأساس القوانين في الأنظمة الديمقراطية: الحريّات العامة والخاصة، ولا سيّما حريّة التعبير والحق في تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات، وحق الاعتقاد ومبادىء المساواة والشراكة والمشاركة والمساءلة والشفافية، في حين أن بعض القوانين تعطّل أو تسوّف تحت ذرائع مختلفة، فتارة بزعم مصالح البلد العليا، وأخرى بحجة التحدي الخارجي وثالثة التغيير بالقوة أو بالثورة للقضاء على أعدائها حتى لو تم التجاوز على القانون وانتهاك حقوق الإنسان، وكل ذلك يتم تبريره بحجج وشعارات كبرى لا تصمد أمام الواقع الموضوعي.
نُشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 11/1/2017