EN | AR
نادي الكتاب رقم (5/2010)
موضوع اللقاء: 
حفل توقيع كتاب "الجنرال ديغول والعالم العربيّ"
المتحدثون: 
أ.د. جان بول بليد، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة السّوربون، و أ.د. جاك بارا، أستاذ الجغرافيا السياسيّة في جامعة باريس الثّانية والدبلوماسيّ السابق
مدير اللقاء: 
الكاتبة دة. حياة الحويك عطيّة

عمّان- عَرَضَ الباحثان الفرنسيّان أ.د. جان بول بليد، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة السّوربون، و أ.د. جاك بارا، أستاذ الجغرافيا السياسيّة في جامعة باريس الثّانية والدبلوماسيّ السابق، أبرز مضامين كتاب "الجنرال ديغول والعالم العربيّ" Le General de Gaulle et le Monde Arabe، من خلال حديثهما في حفل توقيع هذا الكتاب ضمن سلسلة نادي منتدى الفكر العربيّ حول ثمار المطابع، الذي أقيم بالتعاون بين المنتدى وجريدة الدّستور الأردنيّة مساء الأربعاء 30/6/2010. وأدارت اللقاء الكاتبة دة. حياة الحويك عطيّة، التي تولَّت أيضًا الترجمة بين الفرنسيّة والعربيّة.

يذكر أنّ الكتاب صدر مؤخرًا عن دار النهار اللبنانيّة باللغتين الفرنسيّة والعربيّة. ويشتمل على نصوص المحاضرات والمداخلات والكلمات التي قدّمها مشاركون من فرنسا ودول عربيّة متعدّدة في ملتقى عُقد بالعنوان نفسه خلال تشرين الثّاني/نوفمبر 2008 في أبو ظبي، وأشرفت عليه جامعة السوربون. ومن الشخصيّات البارزة المُساهِمة في الكتاب: سموّ الأمير الحسن بن طلال؛ الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة د. بطرس غالي؛ رئيس الوزراء الفرنسيّ السابق دومينيك دوفيلبان؛ وزيرة التربية والتعليم في لبنان أة. بهيّة الحريري؛ وزير الخارجيّة الجزائريّ السابق محمّد بجاوي؛ وزير الخارجيّة التونسيّ السابق محمّد المصمودي.

أشارت دة, حياة الحويك عطيّة إلى أنّ صدور الكتاب لا ينحصر ضمن النطاق الأكاديميّ؛ إذ يأتي في مرحلة تشهد إعادة إحياء السياسة الديغوليّة تجاه العرب أو عودة السياسة العربيّة لفرنسا، خاصّة في ظلّ تراجع السياسة الفرنسيّة المتعلّقة بالعالم العربيّ في العهد الساركوزيّ، وأمام تيّار الأمركة الذي أعقب استقرار القطب الواحد ممثلاً بالامبراطوريّة الأمريكيّة؛ إضافة إلى احتلال العراق وانعكاس ذلك على العلاقات العربيّة الأمريكيّة والعلاقات العربيّة الأوروبيّة.

وفي بداية حديثه حيّا د. جان بول بليد سموّ الأمير الحسن بن طلال، رئيس المنتدى وراعيه، وقدّم الشكر للمنتدى وجريدة الدّستور على اهتمامهما بتعريف القارىء العربيّ بالكتاب. وأشار إلى أنّ المستعرب الفرنسيّ الرّاحل دومينيك شفالييه كان يرى أنّ السياسة العربيّة لفرنسا تمثّلت في ثلاث شخصيّات هي: الجنرال ديغول؛ جاك شيراك؛ دومينيك دوفيلبان. والإثنان الأخيران شاركا في الكتاب. فقد كتب الأوّل المقدّمة، وساهم الثاني بكلمة الافتتاح التي كان قد ألقاها في الملتقى.

وقال: من الطبيعيّ أنّ سياسة فرنسا إزاء العالم العربيّ تندرج في سياق التاريخ والجغرافيا. والجنرال ديغول شخصيّة مشبعة بالحسّ التاريخيّ، وهو الشخص الذي شكّل التاريخ معطى أساسيًّا في مواقفه وخياراته السياسيّة؛ فضلاً عن تجربته الشخصيّة الغنيّة التي بدأت في سورية ولبنان حين كان برتبة كولونيل؛ ومن ثم زياراته المتعدّدة بعد ذلك إلى عدد من الدول العربيّة (المغرب العربيّ، ومصر، وبلاد الشام).

وحين وصل ديغول إلى السلطة عام 1958 كان هنالك حدثان مهمّان: الأوّل انتهاء الاستعمار في المغرب العربيّ، والثّاني حملة السويس. وقد أوجد هذان الحدثان مُناخًا سيئًا في العَلاقات السياسيّة بين العرب وفرنسا؛ الأمر الذي عدّه ديغول أشبه بجملة بين قوسين فُتِح القوس الأوّل جراء الحدثين، وكان يجب أن يُغلق القوس الثّاني لكي تبدأ مرحلة جديدة في تلك العلاقات.

واستعرض المتحدّث تطوّرات السياسة الديغوليّة تجاه الجزائر، التي بدأت بالنظرة إلى أنّ الجزائر جُزء لا يتجزأ من فرنسا، التي كانت قد برزت مع تكوّن حركة التجمّع من أجل فرنسا عام 1947؛ ثم التراجع عن هذه الرؤية خلال الحرب مع الأخذ في الحسبان انتهاء الاستعمار في بقاع مختلفة من العالم، وظهور ما سمّي كتلة العالم الثالث منذ مؤتمر باندونغ ونشوء حركة عدم الانحياز. وفي المرحلة التالية تطوّر الموقف إلى ميل ديغول بعد وصوله إلى السلطة لفكرة التعاون والارتباط بين الجزائر وفرنسا، ولم تكن فكرة الاستقلال قد تبلورت كلّيًّا. وفي مؤتمره الصحافيّ الشهير عام 1959 طرح على الجزائر خيارات ثلاثة: الفرنسة، أو التعاون والارتباط، والانفصال والاستقلال. لكنّه بعد ذلك تنبّه إلى عدم وجود قوّة ثالثة في الجزائر يمكن أن تدعم خيار التعاون، لأنّ الجزائر كانت منقسمة بين المتعاونين ودُعاة الاستقلال.

وأوضح د. بليد أنّ هذا التحوّل في موقف ديغول كان يلتقي مع إرادته الحاسمة في تحديث الجيش الفرنسيّ، الذي كان يعني له في ذلك الوقت امتلاك السلاح النّوويّ. فقد رأى ديغول أنّ الخيار النّوويّ يحقّق لفرنسا الاستقلاليّة. لذلك أصبح لا بدّ من التفاوض مع الحكومة الجزائريّة المؤقّتة لإنهاء الصراع مع الجزائر؛ ما كان يعني أيضًا انتهاج سياسة جديدة إزاء العالم العربيّ. وكان الشرط الأساسيّ لإطلاق السياسة الجديدة إعادة عَلاقات فرنسا الدبلوماسيّة مع الدول العربيّة، بعد أنْ كانت قُطِعَت جميعها، باستثناء العَلاقات مع لبنان، بسبب الثورة الجزائريّة.

وتمثّلت ساعة الحقيقة في إعادة الحرارة إلى العَلاقات الفرنسيّة العربيّة في حرب الأيام الستة عام 1967. فقد كان إعادة التّوازن إلى هذه العَلاقات يعني تغيير موقف التحالف الكامل والكلّيّ بين فرنسا وإسرائيل، الذي تمثّل واقعيًّا في أمور ثلاثة حتى ذلك الحين: حرب السويس، وتسليح فرنسا للقوّة الجويّة الإسرائيليّة، والدعم الفرنسيّ للمشروع النّووي الإسرائيليّ.

وأشار د. بليد إلى ما قاله ديغول لرئيسة وزراء إسرائيل – آنذاك - غولدا مائير، لدى استقباله لها بتاريخ 5/8/1958، من أنّ فرنسا تدعم بقاء إسرائيل حيث هي. وكانت عبارة "حيث هي" تعني أمرين أساسيّين في موقفه: الأوّل أنّ فرنسا لن تساوم على بقاء إسرائيل؛ والثاني أنها لن تقدّم الدّعم لإسرائيل في أية عملية توسّع خارج حدودها القائمة في ذلك الحين.

لكن حين اندلعت الأزمة عام 1967 وحصل العدوان الإسرائيليّ على الدول العربيّة، اتخذ ديغول موقفًا واضحًا لا لبس فيه، عبر عنه في قوله لأبا إيبان في باريس: "لا تقوموا بالمبادرة إلى الحرب. هذه نصيحة من صديق يعرف ما هي الحرب، وما يمكن أنْ يترتّب عليها من نتائج". كما قال للسفير المصريّ في باريس: "لا تبادروا إلى الحرب. ابقوا حيث أنتم".

وعبّر البيان الذي صدر عن مجلس الوزراء الفرنسيّ في 2 حزيران/ يونيو 1967؛ أي قبل الحرب بثلاثة أيام، عن موقف ديغول بصراحة؛ إذ ورد في البيان الذي كتبه ديغول نفسه: "إنّ الدولة التي تكون هي البادئة بالحرب لن تحصل لا على موافقة فرنسا ولا على دعمها". ونتيجة لهذا الموقف أعلن ديغول يوم 5 حزيران/يونيو حظر تسليم (50) طائرة ميراج كانت إسرائيل قد ابتاعتها من فرنسا، حتى لا تكون هذه الطائرات سببًا في زيادة حدّة العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة وخطورتها.

كما أشار المتحدّث إلى أنّ هذا الموقف الفرنسيّ تكرّر مرارًا بعد الحرب. ومن ذلك البيان الفرنسيّ الصادر بتاريخ 21 حزيران/يونيو الذي يؤكّد استحالة قبول فرنسا بالأمر الواقع جراء حرب عام 1967، واعتبار النتائج على الأرض صفرًا أو مُلغاة لا يمكن الإبقاء عليها. وفي 27 تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه عبّر ديغول عن وجهة نظر متشائمة، لكنها بعيدة المرمى وصادقة حيال الصراع العربيّ الإسرائيليّ بعد صدور القرار 242؛ إذ قال في مؤتمر صحافيّ: إنّ إسرائيل ستقوم الآن بتنظيم الاحتلال؛ ما يعني أنّ ذلك يقتضي القمع والمنع والاضطهاد والتهجير، وسيؤدّي ذلك أيضًا إلى نشوء مقاومة ضدّها، مقاومة سوف تنعتها إسرائيل بالإرهاب.
وبيّن د. بليد أنّ الخطّ السياسيّ الذي كان ينتهجه ديغول قام على محوري التوازن والعدالة؛ إضافة إلى عنصر مهمّ جدًا هو التخوّف من أنْ يؤدّي تنامي الصراعات والتوتّر في الشرق الأوسط إلى هيمنة القطبين القائمين في ذلك الحين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتيّ)؛ ما يعني تهديد استقلالية فرنسا، التي كانت هدف ديغول الأساسي، كما عبّر عنه قراره بالانسحاب من حلف شمال الأطلسيّ.

وأكّد أنّ هذه المواقف كلّها ساعدت على تمتين العلاقات مع العالم العربيّ، وفي الوقت نفسه جعلت لديغول شعبيّة كبيرة لدى العرب، لا سيما أنّ الرئيس الرّاحل جمال عبد الناصر أثنى على صدقيّة ديغول وعلى أخلاقيّاته، ووصفه بأنّه الرئيس الغربيّ الوحيد الذي يمكن للعرب أن يعتمدوا على صدقيّته. كما نجمت عن ذلك لقاءات متكرّرة مع الزعماء العرب في سورية ولبنان والأردن والسعوديّة وما كان يُعدّ مشروعات لدول خليجيّة في ذلك الحين.

وعزا د. بليد إلى هذا التطوّر السياسيّ إمكانيّة أن يكون أحد أسباب الأزمة التي اندلعت في فرنسا ضدّ ديغول في شهر أيار/مايو 1968، وطالب فيها معارضوه باستقالته؛ فيما كانت بعض الدول التي تدعي أنها صديقة لفرنسا تبدي الرضا والسعادة عما كان يحدث من اضطرابات وتهديد لسلطته؛ في حين كان العالم العربيّ مُجمِعًا على دعم ديغول في وجه المعارضة. لكنّ الأحداث التراجيديّة التي حصلت بعد ذلك أدّت إلى تأكيد الخيارات السياسيّة لديغول، ومنها حادث قصف مطار بيروت من جانب الطيران الحربيّ الإسرائيليّ عام 1968. وعلى إثر ذلك اتخذ ديغول قرارات تتعلّق بتشديد الحصار على بيع أسلحة فرنسيّة لإسرائيل.

واختتم المتحدّث هذا العرض بالقول: إنّ خلفاء ديغول حافظوا على الخطوط العريضة لسياسته الفرنسيّة العربيّة "فرنكو آراب"، حتى فيما لم يكن مطروحًا في أيامه وأصبح مطروحًا الآن؛ أي قيام الدولة الفلسطينيّة المستقلّة. ويمكن القول إنّ السياسة الديغوليّة بين عامي 1967 و1968 لم تكن تحظى بشعبيّة واسعة في الأوساط الفرنسيّة؛ لأنّ التحوّل جاء مفاجئًا بعد أنْ كان الشعب الفرنسيّ قد تعوّد على مدى سنوات على سياسة التحالف مع إسرائيل ودعمها بشكلٍ كامل. لكن شيئًا فشيئًا أخذ موقف الشعب الفرنسيّ يتغيّر، لأنّ الأحداث كانت تبرهن على صحة السياسة التي انتهجها ديغول. كما يمكن القول إنّ الخطّ السياسيّ الديغوليّ أصبح يحظى الآن بتأييد الأغلبيّة لدى الشعب الفرنسيّ. وإذا كان هذا التحوّل يحدث بهذا الشكل، فهو يمثّل إعادة ارتباط بتقليد سياسيّ يستجيب للمصلحة القوميّة الفرنسيّة؛ كذلك يستجيب لمتطلّب العدالة. والقيمة الكبرى لديغول أنّه فهم هذا المتطلّب الإنسانيّ ورَسَمَ السياسة المناسبة له.

د. جاك بارا تطرّق في حديثه إلى عدد من القضايا في العلاقات الفرنسية العربيّة؛ مُشيرًا إلى أنّ سياسة فرنسا العربيّة موجودة منذ آلاف السنين ويفرضها التاريخ والجغرافيا. لكن المشكلة هي أنّ العالم العربيّ يعاني من نقصٍ شديد في الإعلام عنه في أوروبا الغربيّة. وفي المقابل هنالك خلط غير برىء في الغرب بين مصطلحات مثل "العرب"، و"العروبة"، و"الإسلام" ... إلخ؛ ما سمح برسم أشكال كاريكاتوريّة حول الإنسان العربيّ والإيحاء في كثير من الأحيان بأنه إرهابيّ.

وأضاف: إنّ العالم العربيّ يمثّل مجموعة من الخصائص الجغرافيّة، منها أنه مُتناغم جغرافيًّا، حتى في المشكلات الجغرافيّة المتعلّقة بالمياه والتصحّر. وبقعته الجغرافيّة (الجيوستراتيجيّة) مولِّدة للنزاعات والصراعات. كما أنّه يمثّل عالم أقليّة (300 مليون نسمة) بين سكّان العالم (5,6 مليارات)، وعالم أقليّة أيضًا في العالم الإسلاميّ (14% من مسلمي العالم). ويتشكّل من شقّين: عالم البادية وعالم المزارعين. وقد شكّل التداخل والمواجهة أحيانًا بين هذيْن العالميْن تاريخ العالم العربيّ منذ آلاف السنين.

أما الصراعات فهي مرتبطة جيوستراتيجيًّا بما يملك من ثروات (30% من احتياطيّ الغاز في العالم؛ 60% من احتياطيّ النّفط؛ 30% من الإنتاج العالميّ). وذكر في هذا المجال أنّ سلسلة من النزاعات والحروب شهدها هذا العالم خلال السنوات 1948؛ 1956؛ 1967؛ 1973؛ 1982، ثم الحرب الأهلية في لبنان التي راح ضحيتها 30 ألف قتيل، وأخيرًا الهجوم الأمريكيّ الثاني على العراق.

وأوضح أن أسس السياسة العربيّة لفرنسا تقوم على أنّ الفرنسيّين هم لاتين ومتوسّطيّون، وقد كان لفرنسا دومًا عَلاقات مع المغرب العربيّ؛ كما أنها انتهجت عبر تاريخها سياسة بحريّة كانت تفرض الاهتمام بمنطقة جنوبي المتوسط وشرقيه.

وبيّن د. بارا أنّ الجغرافيّين الفرنسيّين يستخدمون مصطلح "الشرق الأدنى" للدلالة على العالم العربيّ؛ فيما مصطلح "الشرق الأوسط" يعني لديهم العراق وإيران وأفغانستان وباكستان.

وحول العَلاقات التاريخيّة والثقافيّة بين فرنسا والعرب، أوضح أنّ التاريخ الفرنسيّ العربيّ هو تاريخ ألفيّ يبدأ منذ 218ق. م؛ إذ ترك الغاليّون (السكان القدماء في فرنسا) هنيبعل يمرّ من أراضيهم لمحاربة روما. وفي القرن الثامن وقّع ملك فرنسا معاهدة تحالف مع الخليفة العباسيّ المنصور. كما أنّ شارلمان وهارون الرّشيد تبادلا السفراء. وفي أثناء الحملات الصليبيّة على الشرق اكتشف الفرنسيّون فضائل الثقافة العربيّة وأعجبوا بالتقدّم العلميّ والتكنولوجيّ للعالم العربيّ. ومنذ القرون الوسطى، فإنّ بعض الطلبة العرب يلتحقون بالجامعات الفرنسيّة للدراسة بها. وقد افتُتِح أوّل كرسي للآداب العربيّة في جامعة السوربون عام 1917. وفي القرن السادس عشر قرّر الملك فرنسوا الأوّل التحالف مع تركيا، وسمّي ذلك التحالف تحالف الصليب والهلال. وكان لويس الرّابع عشر أوّل مَنْ أنشأ هيئة من المترجمين عن العربيّة في أوروبا.

وأوضح المتحدّث أنّ أوّل مسجد في أوروبا بُني في باريس، وكان تعبيرًا عن شكر فرنسا للجنود العرب والمسلمين الذين ساعدوها في حربها ضدّ النازيّة وتخليصها من الاحتلال النّازيّ.

وقال: رغم ذلك، فإنّ هذا التاريخ الإيجابيّ شابته لحظات سيئة؛ إلاّ أنّ ديغول استطاع أن يعيد التاريخ إلى مساره الإيجابيّ من خلال ترميم العَلاقة الطيّبة مع العالم العربيّ، واستئناف العَلاقات مع مصر وسورية والعراق بعد عام 1962. وبعد ذلك رأينا الرئيس جورج بومبيدو، ووزير الخارجيّة ميشال جوبير، يواصلان السير على النهج نفسه.

وأشار د. بارا إلى أنّه عمل مع جوبير مستشارًا، ووصفه بأنّه كان يعرف جيدًا ما يفعل؛ مع أنّ تبنّي سياسة عربيّة لفرنسا كان يعني مواجهة عدوين هما إسرائيل والولايات المتحدة. لكن الحكومة الفرنسيّة في ذلك الحين صمدت وقاومت، وسمحت بفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينيّة في باريس. وتابع الرئيس جيسكار ديستان السياسة نفسها، وأعلن أنّه لن يكون هنالك سلام في الشرق الأوسط ما لم يتمكّن الفلسطينيّون من إقامة دولتهم.
لكن مع وصول اليسار إلى السلطة في فرنسا، في وقت اندلعت فيه الحرب العراقيّة الإيرانيّة، تصاعدت الخشية من توقف هذا النهج السياسيّ. وقال د. بارا: إنّ اليسار لم يقدم شيئًا للقضيّة الفلسطينيّة. وكان يجب الانتظار حتى عام 1995 لانتخاب جاك شيراك من أجل عودة العَلاقات الفرنسيّة العربيّة إلى موقعها الصحيح. كما بضلت فرنسا كلّ جهودها لمنع الحرب الأمريكيّة على العراق.
واختتم المتحدّث بالقول إنّ سياسة فرنسا العربيّة تتركّز على سبعة محاور هي:

حقّ الشعوب في تقرير المصير.

احترام دولة القانون والتعاون بين الأمم.

أنّ فرنسا تفضّل الحوار البنّاء على صِدام الحضارات. فليس هنالك من عالمٍ مسيحيّ وآخر إسلاميّ؛ بل هنالك بَشَر لكلّ مجموعة منهم ثقافتها ودينها.

حوار الثقافات مسألة ضروريّة في سياق القرن الحادي والعشرين؛ وهذا هو المبدأ الأوّل في التنظيم العالميّ للفرانكفونيّة. وهو أيضًا ما لا نجده في موضوع حوار الثقافات ضمن ميثاق الأمم المتحدة. لذلك، يجب إصلاح الميثاق.

فرنسا تقول نعم للعولمة؛ لأنّه لا مجال لتفاديها، وهي تعود إلى تطوّر النّقل منذ القرن التاسع عشر، وإلى تطوّر تقنيّات الاتصال في القرن العشرين.

لكي يتحقّق حوار الثقافات يجب حلّ الخلافات سلميًّا، لا أن يكون التدخّل فرضًا للديمقراطيّة عن طريق القصف العسكري؛ إذ إنّ هذا الأمر لا يمكن أن يكون مبدأً فرنسيًّا.

ليس هنالك عَلاقات اقتصاديّة من دون عَلاقات ثقافيّة، والعكس صحيح. فإذا أصبح العالم اليوم عالم تجار فقط فسيموت. ويجب أن يستند حوار الثقافات إلى عمليّة تبادل ثقافيّة واقتصاديّة معًا.

وأكد د. بارا أنّه لا يمكن السير عكس سير التاريخ. لذلك يجب الاستمرار في سياسة فرنسا العربيّة، وأنّ التاريخ والجغرافيا والرؤية الموحدة إزاء صراع الشرق الأوسط تساعد على بقاء فرنسا صديقة للعالم العربيّ.

شارك في النقاش الذي أعقب حديث الباحثين الفرنسيّين عدد من السياسيّين والأكاديميّين والمثقفين. وتحدث أ. سيف الشريف، المدير العام لجريدة "الدّستور"، الذي أعرب عن سعادته بالمشاركة مع المنتدى في تنظيم هذا اللقاء، الذي يكتسب أهميّته من تطوّر العلاقات التاريخيّة والثقافيّة مع فرنسا، إضافة إلى القيمة الثقافيّة والأدبيّة لكتاب "الجنرال ديغول والعالم العربيّ".

اختُتِم اللقاء بكلمة لأمين عام المنتدى أ.د. هُمام غَصِيب قال فيها: إنّ اسم ديغول ما يزال يلمع في الوطن العربيّ، ليس فقط لأنه كان عسكريًّا وسياسيًّا عظيمًا وإنّما لإنسانيّته وأدبه الرّفيع. وأشار إلى ترجمة السيرة الذاتية لديغول إلى اللغة العربيّة، وإلى ما جاء عن هذا الزعيم في كتاب للأديب الأردنيّ يعقوب العودات "البدوي الملثم" عنوانه "رسائل إلى ولدي خالد".

كما أشار أمين عام المنتدى إلى مراسلات ديغول مع الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، واستقباله المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، في باريس في أعقاب حرب عام 1967، ومواقفه النبيلة تجاه فلسطين والعرب في معمعان تلك المحنة.

وقال أ.د. هُمام غَصِيب إنّه ناقشَ مع الضيفين الفرنسيّين سُبل التعاون والتنسيق بين المنتدى وجامعة السوربون وجامعة باريس الثانية؛ مؤمّلاً أن تنضم إلى هذا التعاون جريدة الدستور أيضًا، للشروع في تنفيذ أفكار عمليّة قابلة للتنفيذ تتعلق بحوار الثقافات، يكون لها وقعها على أصحاب القرار والمواطنين. وستبدأ اللقاءات مع الجانب الفرنسيّ في هذا الاتجاه في مطلع العام المقبل. كما يؤمّل أن يكون هذا التعاون أحد وسائل الذراع البحثيّة للمنتدى إلى جانب التعاون مع جامعات بريطانيّة وأمريكيّة.

وأكّد أ.د. غَصِيب أهميّة فتح آفاق الترجمة ضمن هذا التعاون، وضمن مشروع المنتدى لترجمة الكتب العظيمة والمهمّة في الآداب الأجنبيّة. وقال: إنّ الترجمة هي الواسطة الفُضلى بين الثقافات.

وقدّم الشكر إلى جريدة الدّستور والمُساهمين في تنظيم اللقاء، الذي أعقبه حفل توقيع كتاب "الجنرال ديغول والعالم العربيّ".    

Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©