عمّان- عقد المعهد الملكيّ للدراسات الدينيّة ومنتدى الفكر العربيّ، مساء الأربعاء 3/3/2010 في مقرّ المنتدى، ندوة مشتركة بعنوان "الدّين والثقافة: العَلاقات المتبادلة"، شارك فيها د. خلدون النقيب، الأستاذ في قسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعيّة بجامعة الكويت، و د. إبراهيم عثمان، الأستاذ في قسم علم الاجتماع بالجامعة الأردنيّة. وأدارها د. فهمي جدعان، أستاذ الفلسفة ومدير المعهد الملكي للدراسات الدينيّة.
وأشار د. خلدون النقيب في ورقته "ما بين الدّين والثقافة والعولمة من اتصال أو انفصال" إلى ما يكتنف العَلاقة الملتبسة بين الدين والثقافة من تعقيد على المستوى الحياتي؛ لكن بعض هذا الالتباس ينجلي حينما ننظر إلى الأمور من زاوية الإرث التاريخيّ. وقال: إنّ الإرث التاريخيّ متجدّد، وليس متحجّرًا في النصوص الدينيّة أو في ممارسة الطقوس الدينيّة.
وأضاف: ليس هنالك من حدث يعكس العلاقة الملتبسة بين الدين والثقافة مثل هزيمة حزيران/يونيو 1967؛ موضحًا أنّه فات الكثيرين منّا التبصُّر في الأبعاد التاريخيّة العميقة لذلك الحدث وتداعياته، الذي عدّه استمرارًا للمواجهة التاريخيّة بين الشرق والغرب؛ أي العالم العربيّ الإسلاميّ من جهة، وامبراطوريّة الغرب المعولمة (ومركزها الولايات المتحدة وغربي أوروبا) من جهة أخرى؛ ما يعني تجاوز المواجهة الحقائق الجيوسياسيّة إلى المواجهة بين عوالمَ حضاريّة. فقد تعدَّت الحملة "الصليبيّة" والعنصريّة الثقافيّة للحضارة الغربيّة العالم العربيّ الإسلاميّ إلى شرقي أوروبا وإفريقيا، أو إلى الحضارات الأخرى.
كما عدَّ هزيمة عام 1967 سقوطًا لشعار الفكر الهجين في الجمع بين الأحسنين (أحسن ما لدينا وأحسن ما لدى الغرب)، الذي رفعه رجال النهضة الأوائل، حينما تفوّق عليه الشعار الذي يرفعه الغرب حاليًّا: "نريد أن نستولي على عقولهم بعد أن استولينا على أبدانهم". كما يعكس حدث الهزيمة انطلاق أو استمرار المقاومة التي تقودها التيّارات الدينيّة المتمثّلة بالإسلام السياسيّ، وهو تراث مقاومة التدخّل الأجنبيّ الذي انطلق مع الوهابيّة، والمهديّة، والسنوسيّة، وتحوّلها إلى حركات ترفض ثقافة الهزيمة، التي تمثّلها بدعة وسطيّة الإسلام – حسب تعبيره – إذا أُريد بها القول عفى الله عما سَلَف للمستعمِر والمعتدي الأجنبيّ.
وأرجع د. النقيب إلى الهزيمة سبب انقسام الطبقة السياسيّة العربيّة إلى تيّارات متنازعة عدّة: التيّار الساداتيّ/الليبراليّ الجديد، الذي يُطالِب بالتطبيع مع إسرائيل والخضوع للهيمنة الامبرياليّة المعولمة؛ والتيّار المقاوم للهيمنة والرافض للفكر الانهزاميّ، وهو ما بين متديّن وقوميّ ويساريّ؛ ثم التيارات الهامشيّة المتطرفة التي ترفع شعارات دينيّة وسياسيّة. وقال: إنّ هذا الانقسام أدى إلى فقدان الإجماع القوميّ على مطالب الأمّة الأساسيّة.
وبيّن المحاضر أنّ هزيمة حزيران/يونيو كانت نتاج عوامل عدّة منها عدم التكافؤ بين العرب والغرب، والصراع الدوليّ؛ فضلاً عن أنّها حلقة من سلسلة المواجهات التاريخيّة بين الشرق والغرب. لكنّ انشغال العرب حينها بالصدمة العاطفيّة التي ولّدتها الهزيمة، واكتشاف التفاوت الكبير بين الآمال والواقع، جعلهم يغفلون عن أنّها جزء من المواجهة لم تكن إسرائيل فيها إلاّ أداة لإلحاق الهزيمة بالعرب، ولم تكن الهزيمة إلاّ صورة من استمرار ما سمّاه الروح "الصليبيّ". فقد مثَّل العدوان الغربيّ علينا حالة الخوف الباثولوجيّ (المَرَضيّ)، الذي يدفع الغرب إلى مشاغلتنا بإسرائيل حتى اليوم.
وأوضح أنّ الغرب لم يستطع أن يقدِّم لنفسه تفسيرًا مقنعًا لظاهرة الانبثاق العربيّ، التي حدثت في القرن السادس الميلاديّ، بانطلاق المسلمين لتكوين امبراطوريّة في أقلّ من نصف قرن من الزمن؛ فيما لم يستوعب العرب الدرس التاريخيّ بالغ الأهميّة، المتكرِّر، والمتمثِّل في بداية توحيد أوروبا بقيادة شارلمان مع بداية الازدهار العربيّ في زمن هارون الرشيد، ثم مع ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة في الأندلس، وبعد ذلك في إدراك الأوروبيّين لما سمّوه الخطر الأخضر، قبل أن يتحدّثوا عن الخطر الأصفر (الصين)، حينما اكتسح العثمانيّون أجزاء من أوروبا وتغلغلوا فيها حتى أبواب فيينّا.
وذكر المحاضر أنّ من أسباب هذا الخوف المرضيّ الغربيّ أيضًا أنّ الحضارة العربيّة هي الحضارة الوحيدة التي تطرح نفسها من بين المدنيّات المعرَّفة بالدين بديلاً عن الحضارة الغربيّة. وقد أثبتت الحضارة العربيّة الإسلاميّة أنها تستطيع أن تجاري الحضارة المسيحيّة في التبشير، وفي استيعاب أجناس مختلفة من البشر؛ ما يدلّ على ديناميّة ظاهرة الصحوة الدينيّة التي رافقت أو تزامنت مع تداعيات هزيمة عام 1967. وقد أوضحت الدراسات أنّ الإسلام والهندوسيّة هما الديانتان اللتان تزدهران في مقابل المسيحيّة المنظّمة. وأضاف إلى هذه الأسباب أنّ العالم العربيّ الإسلاميّ يحيط بأوروبا (المركز) من الجهات الثلاث؛ فيما الجهة الرابعة يتربع عليها العالم السلافي في شرقي أوروبا واليوروآسيا، الذي عدّه صموئيل هنتنغتون من المدنيّات المعرّفة بالدين والمنافِسة للغرب. وتتصل هذه الحقيقة الجيوسياسيّة بمسألة ملكيّة الموارد التي يحتاجها الغرب، والتي دفعت الولايات المتحدة، بعد انهيار نفوذها في إيران، إلى الاستعداد للدخول في حرب نوويّة إذا تهدّدت مصالحها في الشرق الأوسط.
ورفض د. النقيب مصطلح "الشرق الأوسط"، وتساءل: أوسط لمن؟ لمركز العالم أم مركز الكون الذي يسيطر عليه أسياد الجنس البشريّ ...؟ ووصف "الجمع بين الأحسنين"، كالأخذ بمبدأ الديمقراطيّة على النمط الغربيّ، بأنّه مُنتَج صناعي لا أثر له على مستوى الممارسة الحياتيّة ومبني على فكر هجين. كما وصف الديمقراطيّة الغربيّة بأنّها خاوية أصلاً ومن السهل تزويرها وتفريغها من محتواها، وتكييفها حسب متطلّبات القبليّة والطائفيّة. وأشار إلى أنّ من أمثلة الجمع بين الأحسنين إعطاء المرأة حريّتها، والسماح لها بدخول سوق العمل، وتعليمها تعليمًا حديثًا، مع احتفاظها بقيم العفّة والحشمة، وهي القيم الإسلاميّة الأصيلة، إلاّ أنّ ذلك ترافق مع ارتفاع مستوى المعيشة وتقلُّص حجم الأسرة وإضعاف النظام الأبويّ.
وانتقد د. النقيب العادة الذهنيّة لدى العرب في المقارنة بين أوضاعهم المتردّية وبين ما هو موجود في الغرب على أنّه الأفضل، والقبول بمقولة الاستبداد الشرقيّ كأنّها من مسلَّمات التاريخ، من دون بحث أو تمحيص، أو اختلاق قضيّة العَلمانيّة لدى المثقّفين المسلمين؛ فيما هي غير موجودة لدى أغلب الحضارات الأخرى، باستثناء الغرب المسيحيّ.
وأشار إلى أنّ من الجوانب المأساويّة للاستيلاء على العقول أنّ التعليم العالي في أغلب دول الخليج أصبح أمريكيًّا والتدريس فيه باللغة الإنجليزيّة، وأن ّمجزرةً تُرتكب بحقّ أعضاء هيئة التدريس الوطنيّة ممن لا يجيدون هذه اللغة.
كما أشار إلى أنّ من أبعاد هزيمة حزيران/يونيو تحوّل مقاومة الهيمنة الامبرياليّة من القوميّين والعلمانيّين إلى حركات الإسلام السياسيّ الشعبيّ. وقدَّم في هذا السياق تحليلاً للتطورات السياسيّة في الشرق الأوسط عبر العقود الأربعة الماضية أكّد فيه هذا التحوّل، وانتهى إلى البُعد الأخير من نتائج الهزيمة المتمثِّل في فقدان الرؤية الاستراتيجيّة المستقلّة لدى أغلب الحكومات العربيّة. كذلك فقدان الإجماع على المصالح القوميّة العُليا لدى أغلب الشعوب العربيّة.
واختتم د. خلدون النقيب محاضرته بالقول: إنّ الرؤية لدى القوى الشعبيّة لن تتحقّق إلاّ بالانضمام إلى أمميّة جديدة هي حاليًّا في طور الولادة، تتجاوز المدنيّات المعرَّفة بالدين إلى مجتمع عالميّ مبني على حقوق الإنسان، ومحاربة الفقر، وعلى القيم الإنسانيّة، التي شوهتها عقلانيّة الغرب والرأسماليّة، التي تهدّد بقاء المجتمع البشريّ بأزماتها المتكرّرة وشركاتها المعولمة.
من جهته، قدَّم د. إبراهيم عثمان تحليلاً نظريًّا لتعريفات الدين والثقافة لدى المفكّرين والفلاسفة. وقال: إنّ الدين من منظور على الاجتماع يُنظر إليه كما يُنظر إلى أي نظام اجتماعيّ، وإنه نشأ نتيجة الفعل والفكر والأنشطة الإنسانيّة، وتطوّر بتطوّر العقل الإنسانيّ والظروف الموضوعيّة الإنسانيّة. ويتضمّن معنى الدين – في الغالب – الاعتقاد بقوّة فوقيّة مقدّسة ومعتقدات أخرى؛ إضافة إلى الممارسات والجوانب التعبيريّة من خلال الطقوس والشعائر.
وأوضح أنّ الدين حينما يتمأسس يصبح له سُلطة بوصفه نظامًا اجتماعيًّا، خاصة في المجتمعات الأولى البسيطة؛ إذ كان الدين والتنظيمات القرابيّة يشكّلان تصوّرات الإنسان، سواء حول ذاته أو ذوات الآخرين، وحول عَلاقاته الاجتماعيّة، وعلاقته بالعالم والكون والقوى الماورائيّة. وقد حاول علماء الاجتماع والمفكّرون والفلاسفة تفسير ظهور الدين، ولماذا ظهر الدين في الحياة الاجتماعيّة والإنسانيّة، وذهب بعضهم إلى القول إنّ هذا الظهور كان نتيجة التفكير بالموت وما بعد الموت، ونتيجة الأحلام، وهنالك مَنْ افترض أنّ الدين مجرد أوهام وتخيّلات تزول بزوال جهل الإنسان بالبيئة الاجتماعيّة والثقافيّة المحيطة به، كما لدى ماركس وفرويد. ونظر دوركايم إلى سُلطة الدين على أنها سُلطة المجتمع، فيما عدّ بعض علماء الاجتماع النظام الدينيّ تطوّرًا في الأنماط الفكريّة لدى الإنسان، وصورة لكيفيّة تطوّر تفسير الإنسان لما يحيط به من ظواهر اجتماعيّة وطبيعيّة. ومن هؤلاء أوغست كونت، الذي تحدّث عن المراحل في التطوّر الفكريّ وما يتبعها من تطوّرات في البناء الاجتماعيّ وغيره. ومن هذه المراحل المرحلة اللاهوتيّة الأسطوريّة، التي ينتمي إليها الفكر الدينيّ بشكل عام، ثم الفكر الميتافيزيقيّ، ويمثّله الفكر اليونانيّ والهلّينيّ؛ ومن ثم الفكر الوضعيّ.
وبيّن المحاضر أنّ هؤلاء المفكّرين يعدّون الفكر الدينيّ نمطًا من الفكر الأوليّ يمكن أن يحلّ محلّه من حيث السيادة والمركزيّة الفكر العلميّ، الذي يمكن أيضًا أن يشكِّل قاعدة للأخلاقيّات والعلاقات الاجتماعيّة والنُّظم، كمفهوم الدولة مثلاً. كما حاول المفكّرون بناء تصوّر للدين أو للقوّة الفوقيّة المقدّسة، وقالوا إنّ الإنسان حاول أن يُسقِط الخصائص الإنسانيّة على الخصائص الإلهيّة؛ ومن ثم أسقط الباحثون أنفسهم معتقداتهم على ما يعتقد به المؤمنون في هذا الجانب، على الرغم من أنّ كثيرًا من الديانات والمؤمنين بها يعتقدون أنّ مصادر الدين ليست إنسانيّة، وليست إسقاطات من جانب الإنسان.
فيما يتعلَّق بمفهوم الثقافة، أشار د. إبراهيم عثمان إلى تعريف الأنثروبولوجيّين القائل إنّ الثقافة هي حصيلة المركّب العام للعادات والتقاليد والأفكار والفنون والأعراف والقانون، أو كلّ ما أنتجه الإنسان أو تبنّاه من هذه العناصر، بوصف هذا الإنسان عضوًا في جماعة. وقد تشكّلَت هذه المعرفة والقيم الجماعيّة لتصبح كالدين، لها سُلطة، لكنّ رموزها إنسانيّة؛ فيما سُلطة الدين ترتبط بالسلطات الفوقيّة المقدّسة.
كما بيّن د. عثمان عددًا من الخصائص التي تجمع بين الدين والثقافة، مثل أنّهما يشكّلان إطارًا معياريًّا مرجعيًّا لتكوين البناء الشخصيّ، وتصوّرات الأفراد لهذا العالم، وللاتجاهات الفكريّة. من هنا تشكّل الثقافة والدين نوعًا من السُّلطة في توجيه الفكر؛ بل إنّ الدين في مرحلة ما لا يُعَدّ مهمًّا بوصفه نمطًا فكريًّا في حدّ ذاته، وإنّما في درجات تأثيره في الأنماط الفكريّة الأخرى، كالفكر العلميّ أو التصوّرات والتخيّلات التي يمكن أن يأخذ بها الإنسان.
وفي الدين والثقافة قابليّة لأن يتحكّم باستخدامهما مَنْ يملك القوّة في المجتمع. وفي هذه الحالة يمكن أن يتحوّلا إلى أيديولوجيّة ترتبط بمصالح مالك القوّة، فتساعده على إبقاء تميّزه في المجتمع، وتزييف وعي الآخرين؛ ما يجعل له شرعيّة في أن يتقبّل الآخرون أيديولوجيّته وثقافته وفكره. لكن في الوقت نفسه يمكن أن يُنظَر إلى الدين بوصفه حافزًا أو حركة ثوريّة على الواقع القائم، كما حدث في الإسلام وفي المسيحيّة في الماضي، وفي أمريكا اللاتينيّة حديثًا؛ إذ ساندت الكنيسة والرموز الكنسيّة الحركات الثوريّة الشعبيّة. فالدين والثقافة يمكن أن يُستغلاّ من جهات مختلفة في اكتساب الشرعيّة، سواء أكانت هذه الحركات ثوريّة أم يمينيّة محافظة. كما يمكن للدين والثقافة أن يكونا من الحوافز الأساسيّة للفعل والفكر والتنمية، وفي المقابل أن يعملا على تعطيل اختيارات القيم التي تؤثر في فعل الإنسان وفكره.
ومن الخصائص أيضًا أنّ الدين والثقافة يمكن أن يُساهِما في إيجاد قاعدة مشتركة من المعاني والقيم والأهداف توحّد الجماعة، وتعزّز تضامنها، وتحدّد حدودها؛ بمعنى تفرزها عن الجماعات الأخرى. وهذا الفرز ينطوي على تحديد العلاقة مع الآخر. فالدين يمكن أن يشمل قيمًا ومعان تؤدّي إلى التوافق مع الآخر، أو إلى الصراع والتنافس.
واختتم د. عثمان محاضرته بالإشارة إلى أنّ الغرب يحاول تفتيت المنطقة العربيّة مستغلاً تعدّد الأديان والمذاهب لضرب البنية الاجتماعيّة وإحداث التفكّك الاجتماعيّ؛ موضحًا أنّ الدين إنّما يتشكّل في إطار ثقافة المجتمع، وأنّ الثقافة في سياق العولمة أكثر قابليّة للتكيف مع عناصر ثقافيّة وافدة؛ فيما يصعب على الأديان ذلك.
شهدت الندوة نقاشًا نوعيًّا حول قضايا متعدّدة أثارتها المحاضرتان. وشارك في النقاش مثقفون من أكاديميّين وسياسيّين وإعلاميّين وكُتَّاب.