عمّان- ناقش اللقاء الشهريّ الخامس لهذا العام في منتدى الفكر العربيّ ضمن لقاء خاصّ/حلقة نقاشيّة، مساء الأربعاء 12/5/2010، موضوع "حقّ تقرير المصير لجنوب السودان: خَيَار الوَحْدة والانفصال في ظلّ الظروف السياسيّة الرّاهنة". وشارك في الحديث حول هذا الموضوع معالي د. جواد العناني، الوزير السابق وعضو المنتدى؛ وسعادة أ. محمّد عثمان محمّد سعيد، السفير السودانيّ في الأردنّ. وأدار اللقاء معالي م. سمير حباشنة، رئيس الجمعيّة الأردنيّة للثّقافة والعلوم والوزير السابق/عضو مجلس الأمناء في المنتدى.
د. جواد العناني أكّد أن موضوع السودان يجب أن يحتلّ مساحة كبيرة من الاهتمام في ذهن كلّ مثقّف عربيّ؛ لأنّ ما يجري فيه ليس قضيّة داخليّة، بل هي قضيّة عربيّة أساسيّة بكلّ معنى الكلمة. وأعرب عن الأمل في أنْ يبقى السودان موحّدًا، وأن يُعطى الفرصة الكافية ليستثمر موارده، وأن يبقى رصيدًا أساسيًّا في مستقبل الاقتصاد العربيّ.
من جهته، أشار السفير السوداني أ. محمّد عثمان محمّد سعيد إلى أنّ هنالك مؤشّرات على وجود توجهات قويّة نحو الوحدة في السودان، وأنّ دُعاة الوحدة يعتمدون على وعي الشعب السودانيّ وعلى العقلاء في العالم، بما في ذلك العقلاء في الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة، وعلى أن يكون الاستفتاء على استقلال جنوب السودان عن شماله نزيهًا. فالسودانيّون في الشمال والجنوب سيظلّون أشقاء في حالتي الوحدة والانفصال على السواء.
وفي تقديمه للقاء، قال م. سمير حباشنة: إنّ السودان العزيز العربيّ هو بوابة العرب على إفريقيا، وبوابة إفريقيا على العرب. وقضيّته يجب أن تكون من الأولويّات المطروحة على الفكر العربيّ وعلى السياسيّين والسياسة العربيّة. وأشار إلى أنّ الاختلاف هو سنّة أرادها الله للحياة والنّاس والأمم. لكنّ التحدّي فيها هو أنْ تحوّل الأمم الاختلاف إلى تنوّع إيجابيّ؛ ومن ثم يكون هنالك التلاقح بين الثقافات أو الحضارات أو الأمم، فتندفع حركة المجتمعات إلى الأمام.
وقال: مع الأسف، حين تفقد الأمم ألقها يتحوّل الاختلاف إلى صراع، ويصبح نقيضًا للتنوّع الإيجابيّ المتوخّى من الاختلاف، كما تدلّ على ذلك أمثلة نعيشها في الحالة العربيّة والإسلاميّة. فالأمّة العربيّة في ألقها وتمدّنها وذروة عطائها حوّلت الاختلاف إلى تنوع، وأصبحت حضارتها حضارة حاضنة تتفاعل في داخلها الأقليّات والعرقيّات الموجودة بين ظهرانينا، التي صارت جُزءًا لا يتجزأ من حركة الحضارة العربيّة.
وأضاف م. حباشنة: لكن هذا الجيل ضيّق ثوب هذه الأمّة، ولم يعد يستوعب كلّ ما لدينا من تنوّع، وهو يشكّل ثروة حضاريّة؛ في حين تشكّل حالة الاختلاف والصراع خسرانًا للأمّة بأسرها. وعدّ ما يجري في السودان نموذجًا لإخفاق الجيل العربيّ المعاصر في استيعاب التنوع العرقيّ أو اللغويّ، وما إلى ذلك.
استُهلّ اللقاء بحديثٍ لسعادة السفير السودانيّ عن التطوّرات المقبلة على الساحة السودانيّة ذكر فيه أنّ السودان مقبل على استفتاء دستوريّ في شهر كانون الثاني/يناير 2011 حول مصير الجنوب، وأنّ هذه الخطوة جاءت نتيجة لاتفاق وقِّع من أجل تحقيق السلام في جنوب السودان بعد حروبٍ شهدها على مدى خمسين عامًا. وأشار إلى أنّ جزءًا من هذا الاستحقاق تمثّل في الانتخابات النيابيّة والرئاسيّة التي جرت في شهر نيسان/إبريل الماضي.
وأجمل السفير تطوّرات قضيّة الانفصال في السودان، التي عدّ أنّ بداياتها الأولى ظهرت منذ أن وطأت أقدام المبشّرين البيض أرض القارّة السمراء؛ إذ كان همّهم فصل القسم الجنوبيّ من الصحراء عن القسم الشماليّ، الذي كانوا يرون أنّه أصبح مسلمًا ولسانه عربيًّا؛ فيما القسم جنوب الصحراء لا يزال بعيدًا عن العروبة والإسلام؛ ومن ثم يمكن التأثير فيه واجتذابه بالتبشير. وكان هؤلاء مقدّمة للاستعمار الذي جاء بعدهم، والذي بدأ مباشرة بفصل الشمال عن الجنوب من خلال تبنّي سياسة "المناطق المكفولة"؛ أي إغلاق الجنوب تمامًا أمام الشماليّين بقوانين محليّة تحظر حركة الأفراد بين الشطرين إلاّ بإذن من السُّلطات الاستعماريّة.
وقد استمرّت هذه السياسة الاستعماريّة إلى ما قبل الاستقلال ببضع سنوات، حين فطن المستعمِر البريطانيّ إلى أنّ فصل جنوب السودان عن شماله سيمهّد الطريق للوحدة بين شمال السودان ومصر. فلجأت سُلطات الاستعمار البريطانيّ إلى سياسة تخفيف القبضة بشأن الانفصال، وعُقد اجتماع استشاريّ للقيادات التقليديّة في جنوب السودان، وفيهم سلاطين وملوك، وقرّروا البقاء ضمن السودان الموحّد في إطار اتفاق مع السّاسة الشماليّين لمنح الجنوب نوعًا من الحكم الذّاتي وعَلاقة فيدراليّة بين الشطرين. وكان ذلك أولى اللبنات في السير نحو عملية الفصل.
وأدى الغربيّون دورًا تحريضيًّا في تهيئة المواطنين في الجنوب على أنهم مختلفون عن أشقائهم في الشمال، واخترعوا اتهامات للشماليّين بممارسة تجارة الرّق وممارسات لاإنسانيّة بحقّ الجنوبيّين.
وأوضح السفير أ. محمّد عثمان محمّد سعيد أنّ هدف فصل جنوب السودان تطوّر في أجندة الصهيونيّة العالميّة لخدمة دولة إسرائيل، وَفْقَ ما تثبته وثائق تسرّبت حول هذا الجانب. كما أوضح أنّ التمرّد مرّ بثلاث مراحل: الأولى قبل الاستقلال مباشرة عام 1955 حين اعتدى عسكريّون جنوبيّون على رفاق لهم من الشماليّين، واستولوا على بعض الحاميات والمدن. ثم استمرّت فترات التمرّد تخبو حينًا وتشتدّ حينًا، حتى جاءت المرحلة الثانية خلال الستينيّات في عهد الرئيس جعفر النميري، الذي عالج التمرّدات بفترة من السلام. أمّا المرحلة الثالثة فتمثّلت بحركة التمرّد عام 1983 التي قادها الزعيم جون غارنغ باسم "الحركة الشعبيّة لتحرير السودان"، والتي أصبحت الآن شريكًا في الحكم. وقد تبنّت هذه الحركة مشروعًا وحدويًّا لسودان عَلمانيّ لا عَلاقة له بالإسلام. ولأسباب متعدّدة معروفة فشل هذا المشروع، وتراجعت الحركة الشعبيّة عن فكرة السودان الموحّد أو السودان الجديد تحت مظلّة العَلمانيّة، كما ظهر خلال الانتخابات الأخيرة؛ إذ انسحب مرشح الحركة لرئاسة جنوب السودان ياسر عرمان من تلك الانتخابات.
وعدّ السفير أنّ هدف الانفصال الذي قامت عليه الحركة الشعبيّة المذكورة تراجع وانعزل إلى درجة كبيرة وأصبح يُعبَّر عنه باستحياء، على الرغم من أنّ الحركة ما زالت تتذرّع بمسوغات لتحقيق هدفها.
وبيّن السفير أنّ من العوامل التي ساعدت الانفصاليّين على تعزيز موقفهم ودعمه مكتسبات ما بعد الاتفاق؛ إذ تقرّر إنشاء مؤسّسات إدارة مدنية في الجنوب يُناط بها إقامة نواة كيان يمكن أن يصبح حكومة في فترة ما بعد استقلال الجنوب، أو نواة لحكم ذاتي مقتدر في حالة إعلان الوحدة. لكنّ هذه المكاسب، التي حقّقها المتنفّذون في الجنوب خلال الخمس سنوات الماضية ومقدارها (11) مليار دولار، لم تذهب إلى الشعب السودانيّ في الجنوب، وإنما ذهب 90% منها بطرق الفساد إلى القيادات العُليا والموالين لهم.
وقال: إن هنالك جهات دوليّة وجهات لها مصالح في الانفصال، مثل إسرائيل وبعض دول الجوار من جهة جنوب السودان، وجهات تُساير الدول التي تريد الانفصال، تعمل جميعها على تعزيز موقف الانفصاليّين. لكن التقديرات الأكثر ترجيحًا أنّ نسبة لا تتجاوز 30% هي التي تريد الانفصال في جنوب السودان، فيما يدلّ الواقع على أنّ مشروع الانفصال أصبح مشروعًا ضعيفًا بسبب عدم وجود مؤسسات مدنيّة بالمعنى الصحيح، أو بأدنى حدّ من المعايير المطلوبة لمؤسسات المجتمع المدنيّ. فالجيش الشعبيّ هو الذي يسيطر على كلّ مفاصل الإدارة. وإلى جانب ذلك هنالك خلافات جهويّة بين الجيش الشعبيّ والقوى المناوئة له في الجنوب، ظهرت بشكلٍ خاصّ بعد الانتخابات الأخيرة.
وأكّد السفير أنّ مشروع الوحدة له حظوظ أقوى في السودان. ذلك أنّ عدد المسلمين يتساوى مع عدد المسيحيّين في الجنوب، إنْ لم يكن عدد المسلمين أكبر بحسب تقديرات الأمريكيّين. أمّا الأغلبيّة في الجنوب فأتباع لديانات محلّية؛ فضلاً عن أنّ تاريخ التمرّد في الجنوب يُظهِر أنّ هنالك تمايزات تبرز دومًا ضمن المجموعات الكبيرة، من شأنها أن تغذي موقف الوحدويّين في الجنوب نفسه قبل الشمال. وهنالك دلائل بارزة على التعايش والتداخل بين المجتمعات في الجنوب؛ بل إن المناطق التي تسمّى مناطق تماس هي مناطق وحدة حقيقيّة بين السودانيّين. والمسلمون هناك متمسّكون بدينهم ربما أكثر من المسلمين الشماليّين. ولا تزال اللغة العربيّة هي المستخدمة عمومًا في شطر السودان الجنوبيّ.
وفي حديثه قدّم د. جواد العناني صورة إجماليّة عن أهم التحدّيات الحالية في السودان، وقال: إنّ كثيرًا من أحزاب المعارضة قرّرت ألاّ تشارك في الانتخابات الأخيرة، وبعضها اتخذ موقفه متأخّرًا مثل حزب "الأمّة". لكن كان لا بدّ من تعزيز صدقيّة الانتخابات. فالتحدّي الأوّل للسودان هو في عمليّة إعادة البناء الداخليّ السياسيّ بين أحزاب المعارضة والحزب الحاكم، حفاظًا على وحدة أراضي هذا القطر وكرامتها. أمّا التحدّي الثاني فيتمثّل بالاستفتاء على استقلال جنوب السودان، وفي المقابل الجهود المبذولة للحفاظ على الوحدة السودانيّة.
وهنالك تحدّ ثالث يتعلّق بإيجاد حل لمشكلة شرق السودان وإقليم دارفور. وتحدٍّ رابع يتعلّق باستثمار الموارد الكبيرة في هذا القطر.
وبيّن د. العناني أنّ السودان لم تُتَح له منذ استقلاله فرصة حقيقيّة لاستثمار موارده الطبيعيّة الغنيّة، والتنفّس براحة اقتصاديّة ليكون كما نصفه "سلّة الغذاء العربيّ". وقال: آن الأوان لأن نقول بأنّ الأمن الغذائيّ هو من أهم التحدّيات التي لا تزال تواجهنا في الوطن العربيّ. والسودان بحاجة إلى راحة اقتصاديّة واستثمار لموارده الطبيعيّة والنفطيّة والمعدنيّة ليس لصالحه فقط؛ وإنّما أيضًا لصالح سائر الوطن العربيّ.
وأضاف: إنّ التحدّيات الناجمة عن التفاعلات السياسيّة داخل السودان هي أيضًا تحدّيات يمكن تسميتها التحدّيات العربيّة في السودان. ومنها قضية اقتسام مياه النيل؛ وما يجري في منطقة القرن الإفريقيّ، هذا المعبر المائيّ التجاريّ المهم، الذي إذا فُقِدَت السيطرة عليه، فإنّ الدول العربيّة المطلّة على باب المندب والقرن الإفريقي ستصبح في حالة اختناق. كذلك ما يُرسم حاليًّا على الأرض إزاء العلاقات العربيّة الإفريقيّة. فحيث يوجد جيران من العرب والأفارقة تُثار التوترات بينهم، كما حدث بين ليبيا وتشاد، وبين السنغال وموريتانيا، وفي داخل السودان أيضًا.
ودعا د. العناني إلى الاهتمام بهذا الجانب (العربيّ الإفريقيّ) الذي سيشكّل في المستقبل أحد الهموم الكبيرة. وقال: إن الحفاظ على السودان والتأكّد من أنّه ينعم بالاستقرار والوحدة وسلامة الأراضي هو جزء مهمّ من معادلة تحسين العلاقات العربيّة الإفريقيّة، لا سيّما أنّ السودان دولة تفوق مِساحتها 2,2 مليون كم2، وتشكّل بهذه المساحة أكثر من سُبع مساحة الوطن العربيّ بأكمله، وتمتلك عددًا كبيرًا من الأراضي الخصبة والوفرة في السكّان. كما أنّ معظم العرب في الواقع يعيشون في إفريقيا، والمساحة الأكبر من الوطن العربيّ هي في الجانب الإفريقيّ. وإنّنا حينما نتكلّم عن السودان فإنّنا نتكلّم عن كتلة عربيّة أساسيّة.
وحذر د. العناني من التقصير العربيّ إزاء السودان حتى لا يصبح نهبًا للطامعين. وقال: إن الاستثمار في السودان يشكل للعرب حلقة أساسيّة من حلقات المستقبل.
شهد اللقاء نقاشًا مستفيضًا بين المتحدّثين وجمهور الحضور، وتناول النقاش مختلف الجوانب التي أشار إليها المتحدّثان.