EN | AR
اللقاء الشهري رقم (7/2010)
موضوع اللقاء: 
الفكر الصوفيّ
المتحدثون: 
المستشرق الإيطاليّ الأب د. جوزيف سكاتولين، أستاذ التصوّف الإسلاميّ في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة/ روما
مدير اللقاء: 
الأُستاذ حنّا ميخائيل سلامة

عمّان- دعا المستشرق الإيطاليّ الأب د. جوزيف سكاتولين، أستاذ التصوّف الإسلاميّ في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة/ روما، إلى حوار بين التّقاليد الصوفيّة من مختلف الأديان، من دون شروطٍ أو حدود. وركّز في محاضرته "الفكر الصوفيّ"، في اللقاء الشهريّ السابع لمنتدى الفكر العربيّ، مساء الإثنين 28/6/2010، على الفضاءات المحتملة للحوار بين التقاليد الصوفيّة الإسلاميّة والمسيحيّة في عالمنا المعولم؛ مؤكّدًا أنّ كل الأشكال من التصوّف في التقاليد الدّينيّة المختلفة، وبصفة خاصّة المسيحيّة والإسلاميّة، مُطالبة الآن وبصورة مُلحّة بأنْ تقدّم إجابة مقنعة عن إشكاليّات إنسان عصرنا، إنسان العولمة أو القرية العالميّة؛ وهو كذلك إنسان التعدّديّة الدّينيّة.

وقال: إنه بدلاً من الحديث عن نماذج أو نظريّات كلاميّة لاهوتيّة مجرّدة حول الحوار الدّينيّ، فمن الأفضل أنْ تدخل كلّ التقاليد الرّوحيّة في حوارٍ ملموس فيما بينها. وهو حوار يدخل فيه كلٌّ منها بهُويّته الخاصّة وأصالته المتميّزة، وباستعداد مجرّب وانفتاح مقتنع إزاء التقاليد الصوفيّة الأخرى، إي إزاء "غيريّة الآخر".

وأضاف: إنّ أصواتًا ترتفع من أطراف متعدّدة تدعو إلى العودة إلى ما يسمّى "الحكمة الدّائمة" sapientia perennis، تلك الحكمة الإنسانيّة الأصليّة والمشتركة بين التقاليد الدّينيّة المتعدّدة، التي كانت دومًا عَصَبَ الحياة للتاريخ البشريّ. وهذه الحكمة مُطالبة الآن بأن تُعطي معنى جديدًا لتاريخ الإنسان المُعاصر، الذي يتعرّض فيه الكائن البشريّ لخطر فقدان هُويّته الإنسانيّة تمامًا.

واستشهد في هذا المجال بدعوات شخصيّات روحانيّة متميّزة دَعَت إلى اللقاء بين مختلف التقاليد الدينيّة شرقًا وغربًا من أجل إعادة تأسيس الهُويّة الإنسانيّة للكائن البشريّ، مثل المفكّر المسلم سيد حسين نصر، والرّاهب البينيديكتيّ بيد غريفيش، والرّاهب البوذيّ ثيك نهات هانه، وغيرهم ممن أصبحوا على قناعةٍ تامّة بأنّه لا يمكن إنقاذ إنسانيّة عصرنا إلاّ باستعادة الثراء الرّوحيّ المتوافر لدى التقاليد الدّينيّة العالميّة المختلفة، لكي يستعيد الإنسان المعاصر المُستَعبَد من جانب التكنولوجيا الاستهلاكيّة المُسيطرة أبعاد وجوده الرّوحيّة.

كما طالب الأب د. سكاتولين بإعادة النظر في مغامرة الإنسان المعاصر العقلانيّة العلميّة، والتكنولوجيّة الاستهلاكيّة، لإيجاد تآلفٍ وانسجام بين العلم والتكنولوجيا من جهة، والمعرفة والحكمة الروحيّة من جهةٍ أخرى؛ ما من شأنه أن يُبعد البشريّة عن خطر ذوبانها في التذرّي الأخلاقيّ والتشظّي الفرديّ؛ ومن ثم تدمير ذاتها روحيًّا، الذي سيصبح حتمًا تدميرًا مادّيًّا كذلك.

وحذّر من خطر انتشار القبليّات الدّينيّة الحديثة، التي يتحوّل فيها الدّين إلى أداةٍ طيّعةٍ لخدمة المصالح السياسيّة والاقتصاديّة الكبرى؛ موضحًا دور التقاليد الصوفيّة العالميّة في إنقاذ الإنسان المعاصر من هذا الخطر، الذي يتمثّل فيما يسمّى في العالم الإسلاميّ "الإسلام السياسيّ"، والذي يقرن بين الدين وروح القبليّة، ويشتمل دومًا على عناصر اقتصاديّة وسياسيّة قويّة، ويؤدّي إلى نشوء حركات متطرّفة تمارس العنف في العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ. وقال: إنّ التصوّف مُطالب بأن يكون عامل سلام وأخوّة في القرية العالميّة؛ مُعطيًا الأوليّة لأبعاد الإسلام الرّوحيّة التي تغلب فيها روح العدالة والرحمة والمحبّة، وهي أبعاد تشترك فيها أيضًا كل التقاليد الدينيّة السماويّة؛ إذ تؤكّد احترام كلّ كائن بشريّ على مستوى القيم الشخصيّة الأساسيّة، ومنها حريّة الاعتقاد والتعبير؛ ما يشكّل أرضيّة مشتركة ومجالاً واسعًا لكي تتحد جهود التقاليد الروحيّة الإبراهيميّة من أجل التزام مشترك للدفاع عن كرامة كل إنسان، أفرادًا وجماعات، ورفض الاعتداء عليها.

وأوضح المُحاضِر أنّ التصوّف الإسلاميّ مُطالب بمساعدة العالم الإسلاميّ على مواجهة تحدّيات أربعة هي: معاودة رسالته الأصليّة مُحرّرًا إياها من هيمنة النظرة الفقهيّة الجدليّة والتمسُّك الخانق بحذافير النصوص؛ وإقامة عَلاقة إيجابيّة مع الحداثة بالدفاع الواعي عن حقوق الإنسان ومتطلّبات الفكر العلميّ الحديث؛ والدخول في حوارٍ بنّاء مع التقاليد الرّوحيّة الإنسانيّة الأخرى من أجل إيجاد مساحات للتفاهم والتعاون معها؛ وأخيرًا الالتزام مع القوى الإنسانيّة الرّوحانيّة الأخرى من أجل نشر العدل والعدالة والسلام في العالم أجمع لخير البشريّة، لا سيما المُستَضعَفين.

وأردف: إن هذا كلّه يمثّل تحدّيًا خطيرًا للإنسانيّة المعاصرة، وهو أمر يهمّ جميع الأديان التي تتحرّك على مسرح كوكبنا الأرضيّ. وإنّ كلّ دين مُطالب الآن، أكثر من أي وقت مضى، بألاّ يكون أداة طيعة في يد سلطة مستبدّة، كما حصل مرّات كثيرة في الماضي وكما يحصل الآن أيضًا؛ بل أن تصبح الأديان بصورةٍ واضحة لا لبس فيها عوامل إيجابيّة للأخوّة والتعايش السلميّ بين مختلف الشعوب والثقافات.

أوضح الأب د. سكاتولين في بداية محاضرته أنّه ينطلق في دعوته وبحثه في الحوار بين الرّوحانيّات، أو الرّوحانيّات في حوار، مما جاء في الوثيقة الصادرة عن المجمع الفاتيكاني الثاني وعنوانها "في عصرنا" Nostra Aetate,1965، التي فتحت عالم الكنيسة على آفاق الأديان الأخرى غير المسيحيّة، والتي اقترحت أشكالاً أربعة للحوار هي: حوار على مستوى الحياة، وحوار على مستوى الأعمال، وحوار على المستوى العقائديّ، وحوار على مستوى الخبرة الدينيّة. وهذا الشكل الأخير هو موضوع البحث الذي يتناول التساؤلات الأساسيّة المشتركة حول الوجود الإنسانيّ والأوضاع الإنسانيّة، التي تتطلَّب الإجابة عنها بإلحاح.

وقد حدّد المُحاضر موضوعات تلك التساؤلات بالعولمة وتحدّياتها، مثل الهيمنة المتزايدة لما سمّاه العمليّة التسويقيّة العالميّة، التي تؤدّي إلى "التكتّل الثقافيّ العالميّ"، الذي يؤدّي بدوره إلى سحق الهُويّة المحليّة؛ ومن ثم سحق القيم التقليديّة في المجتمعات الإنسانيّة، والتشظّي الأخلاقيّ الدّينيّ. وكردّ فعل على ذلك تبرز صحوة القبليّات الحديثة من إثنيّة وثقافيّة ودينيّة. وإنْ كانت استعادة القيم التقليديّة في حدّ ذاتها تُعد ظاهرة إيجابيّة، إلاّ أنّ استعادة الهُويّة الذاتيّة بطريقة قبليّة، أو بروح الانطواء على الذات والعداء للآخرين (المجموعات والثقافات الإنسانيّة الأخرى)، يُولِّد نزوعات قبليّة ثقافيّة ودينيّة. وحينما تجد هذه النزوعات دعمًا من مصالح سياسيّة واقتصاديّة، فإنّها تتحوّل بكل سهولة إلى وقود مُلتهب لصراعات وحروب ضارية لها عواقب كارثيّة.

وناقش الأب د. سكاتولين متطلّبات التعدّديّة الدّينيّة؛ منبّهًا في هذا السياق إلى أنّ الأخذ بالفوارق الدّينيّة جدّيًّا وبكامل معناها الخاص يضعنا على طريق التلاقي الحقيقيّ بين الأديان.

وحول التصوّف في الأفق الوجوديّ للإنسانيّة المعاصرة، أشار إلى أنّ مصطلح صوفيّ mystic مع كلّ مشتقّاته قد ابتُذِل على نطاقٍ واسع في الثقافة التسويقيّة المتداولة حاليًّا والمفروضة على الجماهير عبر النزوع الاستهلاكيّ العالميّ، فاختُزل في أغلب الأحيان كإشارة إلى كلّ ما هو شاذّ غريب، وغير منطقيّ وتافه على مستوى العرض show الاستهلاكيّ. كذلك يستخدم مصطلح صوفيّ للتلميح إلى أي نوع من الظواهر الغيبيّة الغريبة وغير الطبيعيّة.

أمّا المعنى الحقيقيّ والعميق للصوفيّة، فأوضح الأب د. سكاتولين أنّه إشارة إلى الحقيقة الأعمق في صميم الإنسان والأكثر سرّيّة وخَفاءً فيه، وغير المعروضة أو المُتاحة للفضول المتطفِّل والاهتمامات السطحيّة للعامّة؛ وأنّ الاهتمام بهذا البُعد العميق في الكائن البشري والرّغبة الصارمة في تحقيقه في الحياة اليوميّة، بل المراهنة عليه في الحياة نفسها، يعني الدخول في البُعد الصوفيّ. وقال: إنّ الخبرة الصوفيّة تمثّل قلب الخبرة الدّينيّة؛ ما يعني أنّها تمثّل أيضًا قلب صميم الخبرة الإنسانيّة نفسها.

أدار اللقاء، الذي حضره وشارك في النقاش خلاله أكاديميّون وسياسيّون وإعلاميّون، الكاتب والباحث الأردنيّ أ. حنّا ميخائيل سلامة، الذي قدّم المحاضر بكلمة استعرض فيها سيرته وجهوده العلميّة وعددًا من مؤلّفاته وتحقيقاته، ومن أبرزها تحقيقه لديوان الشاعر الصّوفيّ ابن الفارض بعد أن عثرَ على مخطوطة قديمة له في مدينة قونية التركيّة، إلى جانب مخطوطين آخرين وجدهما في ألمانيا وهولندا. ومن مؤلّفات الأب د. سكاتولين: "الإسلام والعولمة"؛ "الله والإنسان في الإسلام"؛ "التصوّف الإسلاميّ"؛ "الإسلام والحوار الدينيّ"، وكلّها باللغة الإيطاليّة.

 



Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©